في شهر جانفي الماضي، كتب وزيرُ الخارجية الصهيوني أفيغدور ليبرمان، مقالا في موقع "ديفينس نيوز" الأمريكي، انتقد فيه الدولَ الغربية التي وضعت منذ قرن حدود الدول العربية والإسلامية الحالية، في إطار اتفاقية "سايكس بيكو" دون مراعاة لمكوِّناتها الطائفية والعِرقية، ودعا ليبرمان الغربَ إلى "تصحيح خطئه" من خلال إعادة تقسيم هذه الدول على هذه الأسس؛ أي الطائفية والعرقية، وقدّم ذلك على أنه "الحلّ الأمثل" لصراعاتها وأزماتها!
هذه الدعوة كان يمكن ألا يلتفت إليها أحد؛ فهي ليست جديدة ولا مُفاجِئة وطالما صرّح القادة الصهاينة برغبتهم في بلقنة سوريا وتقسيم العراق ودول عربية أخرى إلى دويلات هزيلة؛ "خدمة للأمن القومي الصهيوني"، لكن حينما يدعو مستشارُ الرئيس ترامب للشؤون الخارجية، سيباستيان غروكا، إلى تقسيم ليبيا إلى ثلاث دويلات بطرابلس وبرقة وفزان، ويزعم أن التقسيم هو "الحلّ الأمثل" لحربها الأهلية، فإن على الدول العربية، وليس ليبيا فحسب، أن تشعر بالقلق العميق؛ فهذه الدعوة تعني أن الإدارة الأمريكية بدأت تقتنع بفكرة ليبرمان وباقي حلفائها الصهاينة، ومن غير المستبعد أن يشرع ترامب - أكثر الرؤساء الأمريكيين تناغما مع الكيان الصهيوني - في تجسيدها بشتى الطرق لإعادة تقسيم معظم الدول العربية والإسلامية الحالية، على أسُس طائفية وعرقية وحتى مناطقية جهوية كما هو الحال بليبيا، التي يبدو أن التقسيم سيبدأ بها وتليها سوريا والعراق، باعتبارها الحلقات الأضعف، والبقية تأتي تِباعا...
وفي ظل احتدام الصراعات والفتن الطائفية والعِرقية بالمنطقة، وتواصل التحريض الطائفي المتبادَل دون تقدير لعواقبه الوخيمة، فإن الفرصة باتت مواتية لتنفيذ مخطط التقسيم، وستعمد أمريكا والغرب إلى النفخ في هذه الفتن بمختلف الدول العربية والإسلامية، إلى أن يصبح التعايشُ مستحيلا بين مختلف مكوِّناتها، إضافة إلى إطلاق يد "داعش" لتقويض الجيوش الوطنية وإثارة المزيد من النعرات العرقية والطائفية وكذا الدينية من خلال استهداف الأقليات، كما حدث في العراق ويحدث مع أقباط مصر هذه الأيام.
المخيف في الأمر أن كل بؤر التوتر الطائفية والعرقية وحتى المناطقية الجهوية بالمنطقة، تزداد لهيبا واشتعالا من عام إلى آخر، ولا يكاد أيّ منها يقترب من الحل السياسي حتى تعود الأمور إلى نقطة الصفر، وقد حدث هذا بليبيا واليمن وسوريا برغم كثرة جلسات التفاوض بين أطراف هذه الصراعات، ما يعني أنها تفتقد إلى المرونة الكافية لتقديم تنازلات ضرورية تفضي إلى تحقيق تسويات سياسية، تغذّيها إرادة خارجية لإبقاء هذه البؤر مشتعلة لتحقيق أهدافها.
إن أخطر ما في المسألة، هو استمرار هذه الصراعات والفتن سنوات أخرى؛ لأن ذلك من شأنه أن يُبعِد التسويات السلمية، ويرفع منسوب العداوات والأحقاد، ويكرّس الاصطفافات الطائفية والتعصّب للأعراق على حساب الأوطان، ويزيدها تفسّخا وتفكّكا، ويجعل عودة التعايش بين المكوِّنات الاجتماعية لمختلف الدول شبه مستحيل، ما يجعل فكرة التقسيم مطلبا داخليا قبل أن تكون رغبة صهيونية أمريكية غربية.
وبرغم قتامة الوضع، فإن الحلّ لا يزال بيد الأطراف المتصارعة في هذه الدول، وبالأخص سوريا وليبيا والعراق واليمن، وبإمكانها إنقاذها من التفكّك والاندثار من الخريطة من خلال التعقّل والتحلّي بالحكمة وروح المسؤولية والجنوح إلى حلول سياسية توافقية، قائمة على تنازلات متبادلة للحفاظ على وحدة بلدانها، ولها الخيار.