مفاجئ وصادم القرار الذي نفذته حكومة الوفاق الوطني، بحق موظفي السلطة المدنيين والعسكريين والذي يقضي فعليا بحصول الموظف على الراتب الأساسي بدون أية علاوات. الحديث يدور عن خصم يصل إلى 30% من الرواتب ولكن الحقيقة هي أن الخصم بالنسبة لبعض الرواتب قد يصل إلى أكثر من 50%، خصوصا من الفئات العليا، والمعلمين، والأطباء، والقانونيين.
شعور المواطنين في قطاع غزة بالتهميش والتمييز كان أمرا سابقا على هذا القرار الصادم، فلقد توقفت الترقيات، والاستحقاقات، وبعض العلاوات، وبطبيعة الحال التوظيفات الجديدة. كان الأمر يبدو مفهوما وإن كان غير مقبول بالنسبة للموظفين الذين لا ذنب لهم لا بوقوع الانقسام، ولا بمغادرة مواقع عملهم بعد انقلاب حركة حماس على السلطة. على أن مسألة عدم الالتحاق بمواقع أعمالهم، التي كانت بقرار من السلطة، لا تفسر أسباب وأبعاد القرار الذي يشمل موظفين على رأس أعمالهم كما هو واضح في قطاعي الصحة والتعليم وأيضا في وزارة الشؤون المدنية.
كانت السلطة تقطع رواتب غير الملتزمين بقرارها مغادرة مواقع العمل، وقامت بقطع رواتب أولئك الذين تابعوا العمل في دوائر حكومة حماس المستقيلة. لكن الأمر هنا قد اختلف، وطال بعض الموظفين من غزة الموجودين في الضفة، الذين يزاولون وظائفهم أسوة بنظرائهم من موظفي الضفة، واختلف، أيضا، بكونه قرارا شاملا، ما يضعه في مقام العقاب الجماعي ليس لموظفي السلطة في غزة فقط وإنما لكل سكان القطاع، الذين يتأثرون بمثل هذا القرار العبثي. لو أنني لست كاتبا ومحللا سياسيا لوصفت القرار بما هو أصعب بكثير من كونه عبثيا.
ثمة مقدمات لم يكن بالإمكان فهمها على أنها ستدفع الأمور إلى هذا الحد وكان آخرها قانون التقاعد المبكر. قبلها كان صدر توعد بإجراءات صادمة وذلك في معرض الرد على إعلان حركة حماس تشكيل "اللجنة الإدارية"، التي اعتبرها الكثيرون أنها حكومة بديلة لإدارة الوضع في غزة، غير أن أحدا لم يتوقع أن تكون الإجراءات الصادمة، والمقدمات التي سبقت، هي مقدمات للتخلي الكلي من قبل الحكومة عن مسؤولياتها تجاه غزة وموظفيها.
التبريرات التي ساقها الناطق باسم الحكومة يوسف المحمود تشكل خلطة غريبة من العوامل، التي تذهب نحو اعتبار القرار، عقابا جماعيا للناس. ما ذنب الناس والموظفين تجاه الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة، وما هو ذنبهم تجاه الانقسام البغيض الذي رفضوه وقاوموه بقوة. خلط المحمود الحابل بالنابل، إلى أن جاء عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أحمد مجدلاني، كي يكحلها فأعماها حين قال إن القرار باتفاق بين السلطة والاتحاد الأوروبي.
إذا كانت القضية تتعلق بنقص التمويل، وأزمة الخزينة العامة، فلقد كان من الأولى أن يتم خصم نسبة معينة من كل الموظفين في الضفة وغزة، وأن يتم تقليص النفقات، واتباع سياسة تقشف إلى أن تنجلي الغيمة. أما إذا كان القرار نتيجة اتفاق بين السلطة والاتحاد الأوروبي كما يقول مجدلاني، فإن السؤال يذهب إلى مدى استقلالية القرار الفلسطيني، الأمر الذي يظهر بقوة في مكان ويختفي بهدوء في مكان آخر.
أما عن سؤال المتضررين فهم أولا أبناء حركة فتح، الذين يشكلون النسبة الأكبر من الموظفين الضحايا، ولكن نظرا لأن عدد هؤلاء الموظفين يصل إلى بضع عشرات الآلاف فإن المتضررين، يصلون إلى بضع مئات الآلاف، ولذلك فإن الاحتجاجات القوية صدرت عن كوادر وقيادات فتحاوية.
الخصم على هذا النحو، يؤثر على البنوك، والتجار الذين لا يمكنهم الاستيراد، بسبب تراجع القوة الشرائية، ويؤثر على الأسواق بكل ما فيها ويضاعف ظاهرة الكساد التي تعم الأسواق والحركة التجارية منذ بعض الوقت.
هذا عدا تأثيره على قدرة الموظفين الوفاء بالتزاماتهم تجاه أبنائهم وأسرهم وأقربائهم، وحتى على مجريات حياتهم اليومية، ولا أرغب في تفصيل بعض الجوانب الصغيرة ولكن الهامة في حياة الناس.
أتساءل هنا عن الجهة التي اتخذت القرار إذا كان أعضاء من اللجنة المركزية لحركة فتح، استنكروا القرار وطالبوا بالعودة الفورية عنه، ومنهم حتى الآن الإخوة جمال محيسن وروحي فتوح بالإضافة إلى الأخ الأكبر الدكتور زكريا الأغا، الذي يحتفظ بعضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة.
القرار المجزرة، ليس قرارا إجرائيا قاسيا أو غير قاس على ضحاياه المباشرين، بل انه كما يصفه الكثيرون يجعل من كل قطاع غزة بالمعنى السياسي والاجتماعي والوطني العام ضحية سياسات خاطئة، تكرس وتعمق الانقسام، بل وتدفع الأمور إلى الانفصال، الأمر الذي يرفضه الجميع نظريا، وتكرسه الإجراءات والإجراءات المضادة.
أتساءل عن مدى جدية التصريحات الكثيرة عن الالتزام بالسعي نحو تحقيق المصالحة واستعادة الوحدة، وأتساءل، أيضا، عن مدى جدية الخطاب الذي يطالب بإجراء انتخابات عامة تشريعية ورئاسية وللمجلس الوطني الفلسطيني. إن من يصدق القول بالفعل، لا يمكنه أن يقدم على إجراءات وقرارات من هذا المستوى، والتي تجعل الجماهير تنفضّ من حوله، ومن يصدق القول بالفعل، لا يضحي بحركة فتح، التي هي العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية. أرجو أن لا يشك أحد بأن مجزرة رواتب موظفي غزة، ستؤثر سلبيا وإلى حد كبير على وجود ووحدة حركة فتح في القطاع، وقد لاحظنا إعلانات الاستقالات الجماعية والفردية التي جاءت كردود فعل فورية على هذا القرار.
تبدو غزة هكذا على أنها تدفع إلى الهوامش وهي مرفوضة من قبل كل الأطراف الفاعلة، فلا إسرائيل تريدها، ولا السلطة تريدها، ولا أحد آخر يقبلها. هؤلاء كلهم لا يقرؤون التاريخ، وسيدركون بعد فوات الأوان أن غزة هي التي حافظت على الهوية الوطنية وستبقى، وانها مركز المشروع الوطني الفلسطيني، وحاملة رايات الكفاح من اجل كل فلسطين.
أنصح الذين اتخذوا القرار بالعودة عنه فورا، وإلى ذلك الحين أنصحهم أن يتابعوا نسب الذين يصابون بالجلطات القلبية والدماغية بعد صدور القرار، وأن يتابعوا، أيضا، نسب حالات الانتحار. أما لاحقا فإن عليهم أن يراقبوا معدلات الهجرة، والانهيار الاقتصادي، وتدني مستوى جودة الحياة، بالنسبة لمليوني فلسطيني أخرجهم الكل من حساباته.