كتاب عربي 21

من أحوال الثقافة في تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
التيه في معرض الكتاب تقليد جميل ويتحول إلى إدمان لذيذ يستزاد منه كلما أوشك المعرض على النهاية. متعة نعم ولكن هل التيه في المعرض تيه بالثقافة والكتاب أم تيه عنها؟ في الجولان على غير هدي بين أجنحة المعرض يعاودني السؤال هل الثقافة في بلادي بخير وهل لدى حكومة بلادي الجديدة سياسة ثقافية واضحة تقرأ أم ترقيع وترضيات ومجاملات لزيد دون عمرو؟ وفي خضم ذلك وأنا أرى الناشرين العرب يحظون بزوار كثر هل المساهمة الثقافية التونسية في الثقافة العربية جيدة؟ سأكتب هنا عن بعض أحوال الثقافة في بلادي ولكن بعلم مسبق إن هو إلا بعض من أحوالها فكما كتبت عن شح المياه في الزراعة في المقال السابق فإن حال الثقافة غير مختلف ويحتاج مياه ري ثقافي دفاقة.

إدارة عمومية للثقافة

منذ التأسيس اختارت الدولة أن تضع سياسة عمومية للثقافة. كان بورقيبة قريبا في الزمن والمكان من التجربة الفرنسية لما بعد الحرب العالمية الثانية (إعادة البناء بعد الحرب) وكانت تجربة فرنسا نفسها تقلد وان بمرونة كبيرة السياسات السوفييتية في مجال تنظيم الشأن الثقافي نائية بتجربتها عن الخيار الليبرالي الانجلوساكسوني الحر حرة مطلقة. لكن ككل تجارب التأسيس الفوقي بقرار تحولت السياسة العمومية للثقافة في تونس إلى عملية توجيه فكري وفني تحت مسمى تربية الشعب على حسن الذوق وإخراجه من تخلف القرون الوسطى. وكان الإعلام جزء من هذه السياسة وكلها تأتمر بأوامر الزعيم وتروج لذوقه الشخصي.

تتخذ وزارة الثقافة في تونس سياسات دعم ثقافي لذلك يأتيها الجميع صاغرين فتفرض شروطها. تشمل سياسات الدعم كل مجالات الإنتاج الثقافي في المسرح والسينما والكتاب والمهرجانات. وقد نتج عن ذلك مثقف تابع لوزارة الثقافة ينتظر توجيهاتها ويلتزمها لأن التزامها يضمن الدعم المالي وفي الالتزام قبول بالرقابة وفي الرقابة حد من الحرية ومن الإبداع وقتل تدريجي للثقافة والنتيجة ماثلة الآن للعيان. المثقف التونسي لا يقوم بنفسه وإنما هو مثقف ملتزم مدعوم أو مثقف حر منسي أو ميت.

سياسة دعم النشر القاتلة للإبداع

مثال ذلك ونحن بصدد معرض الكتاب سياسة دعم الكتاب. تقوم وزارة الثقافة بدعم الكتاب بطريقتين أولا إسناد دعم لثمن الورق يقدم للناشر بنسبة مئوية تفوق 70 بالمئة من وزن ما استعمل من ورق للطباعة وثانيا تقوم بشراء عدد من نسخ الكتاب المنشور مهما كان نوعه لتوزيعها على المكتبات العمومية في الجهات والأحياء وهي مؤسسات تابعة للوزارة مهمتها تقريب الكتاب من قارئ محلي بالمجان.

نتج عن ذلك أن الناشر يحصل على دعم بطريقتين لكن تبين أن الناشر التونسي يتحايل على الدعم فيطبع في لبنان سرا ويضع علامة دار النشر التونسية على أن الكتاب استعمل فيه ورق تونسي فيحصل على دعم لورق لم يستعمله. لذلك عدلت الوزارة الحالية الأمر فألغت دعم الورق وحولت الدعم بزيادة عدد النسخ المقتناة من الناشر. ولسائل أن يسأل لماذا لم تتبع الوزارة مثال السياسة اللبنانية (لبنان غير منتج للورق) في استيراد الورق وإعفائه من ضرائب المستوردات لتخف كلفة الطباعة محليا؟ والجواب قريب من الأفهام. لقد حررت الدولة في إطار لبرلة غبية سياسة استيراد الورق لتضع عليه ضرائب فلم يعد بإمكانها الضغط على كلفته في السوق الداخلية.

وإلى ذلك نسأل ماذا كانت نتيجة دعم نشر الكتاب بالشراءات؟ لقد نتج عن ذلك أمور سلبية أخرى منها أن الوزارة تشتري كل شيء كي لا تميز بين الناشرين (لجنة الشراءات ليست لجنة رقابة على المحتويات أي أنها لا تقيم المنشور علميا أو أدبيا أو حتى لغويا) لذلك امتلأت المكتبات بمنشورات بعضها لا يحرص حتى على الحد الأدنى اللغوي الذي سيوضع في متناول قراء صغار السن. ومنها وهذا الأخطر على الكتاب والثقافة عامة أن الناشر التونسي يعمد إلى طبع عدد محدود من النسخ تكفيه ليحصل على الدعم ويحقق أرباحا ثم يتوقف عن التوزيع وإعادة الطبع (لأن الطبعة الثانية لا تدعم) فيموت الكتاب دون أن يمرّ بالسوق والمكتبات.

تقتني الوزارة الكتاب بالثمن الذي يحدده الناشر وهو عادة يرفع الثمن بشكل غير متناسب من كلفة الكتاب من ناحية الجودة لكن الوزارة لا تناقشه في النوع ولا في طريقة تحديد الثمن.

وفي داخل هذه الشبكة توجد زبونية كبيرة فالناشرون ليسوا سواسية من حيث عدد النسخ المقتناة وليس لدى الوزارة مقاييس موضوعية لذلك. وهذه بوابة فساد يراها الجميع ولا يستطيع لها ردا. بل لقد ولد ناشرون من هذه الدعم ويعملون فقط على الحصول عليه دون أي انشغال بمصير الكتب التي ينشرونها. فدعم الوزارة يكفيهم لتغطية الكلفة وتحقيق أرباح لذلك تكثر العناوين لديهم وتقل النسخ.

ومن هوامش سياسة الدعم أن كل الدعم يذهب إلى الناشر وأغلب الناشرين يجبرون الكتاب على دفع الكلفة مقابل نشر كتبهم بوعد إرجاع الكلفة بعد البيع لكنهم لا يبيعون ولا يوزعون فلا يردون الدين للكاتب. وليس لدى أي كاتب قدرة أو وسيلة على مراقبة مخزن الناشر الذي يحتفظ بالنسخة الصفر على حاسوبه ويجذب منها قدر ما يشاء خاصة للمعارض الخارجية التي لا يمكن لكتاب مراقبتها. والوزارة تعرف ذلك ولا تجبر الناشر على إبراز عقد نشر للحصول على الدعم بما يسمح بالقول أن هناك تواطؤ بين لوبي الناشرين والوزارة ضد الكِتاب والكُتاب. وهو من ثمرات السياسات العمومية المنتجة للزبونية والتي نجد مثلها في قطاعات ثقافية أخرى كالسينما والمسرح.

السياسة الثقافية العمومية منتجة للزبونية الثقافية

يوجد عدد قليل من المخرجين السينمائيين ورجال المسرح الذين يسكنون الوزارة ويتوزعون غنائمها فيما بينهم فهم أعضاء لجان القراءة والدعم وهم من يغيرون مواقعهم فيدخلون ويخرجون إلى اللجان ولا يسمحون لمبتدئ بالدخول بينهم. هؤلاء نخبة الثقافة في تونس ولا يمكن تغييرهم حتى الآن إلا بأحد أمرين، نهايتهم الطبيعية أو قطع المدد الزبوني الذي توفره سياسة عمومية يهمها أن تبقي المثقفين تحت جناحها تستخدمهم و"ترشوهم" بأعطيات الدولة.

مكمن الهوان والفشل والتسطيح في الحياة الثقافية في تونس هي هذه سياسة العمومية في مجال الدعم الثقافي وقد عجز كل وزراء ما بعد الثورة عن المساس به. عجزا أمام اللوبي المتمعش. هذا اللوبي نفسه يملك أذرعه الإعلامية التي تروج له في الإذاعات والتلفزات العمومية والخاصة. فهو لا يري التونسيين إلا ما يرى ولا ثقافة إلا ما يصنع وما يروج. والمبدعون خارج هؤلاء يظلون مغمورين حتى نهايتهم لا أحد يقرأ لهم ولا أحد يروج لأعمالهم إلا ضمن دوائرهم الخاصة من أصدقائهم المقربين.

وعليه بإمكاننا القول أن الثقافة التونسية تتجه إلى موت حتمي ما لم يتم كسر هذه الخطة والخروج إلى عوالم الحرية ولن يكون بإمكان من تربى على الدعم أن يبادر فهي حالة عجز لا حالة إبداع. سنواصل التسكع في معرض كتاب باهت ونسأل عن مصير الثقافة في تونس..
0
التعليقات (0)

خبر عاجل