تحت لافتة كتب عليها "تصليح كافة أنواع
الأسلحة"، ينهمك عبود جان في صيانة بندقية كلاشنيكوف جاء بها أحد زبائنه المقاتلين إلى متجره الصغير في مدينة
الحسكة السورية.
وفي بلد يشهد حربا دموية دخلت عامها السابع، تحولت صيانة الأسلحة إلى مهنة مربحة، وبعدما كانت تقتصر على تصليح بنادق صيد العصافير والبط باتت اليوم تشمل المسدسات والرشاشات مثل الدوشكا الروسية والكلاشنيكوف.
يعمل عبود جان (36 عاما) في هذه المهنة منذ 15 عاما لكنه وجد نفسه خلال السنوات الماضية مضطرا للتعامل مع أنواع جديدة من الأسلحة لم يعتد عليها سابقا.
ويقول جان وهو في متجره في وسط مدينة الحسكة (شمال شرق): "كنا نصلح أسلحة صيد، لكن الأمر اختلف علينا خلال الأزمة وبتنا نصلح قطعا كبيرة بالإضافة إلى المسدسات من بينها (رشاشات) الدوشكا والبي كي سي فضلا عن الأسلحة الروسية الخفيفة".
اقرأ أيضا: بشار الأسد يقر تعديلات على قانون الأسلحة والذخائر
ويختلف زبائن عبود اليوم بين مواطنين يملكون سلاحا فرديا صغيرا "للحماية" ومقاتلين سواء موالين للنظام أو للأكراد. ويسيطر الأكراد على الجزء الأكبر من مدينة الحسكة فيما يحتفظ الجيش السوري والمقاتلون الموالون له ببعض المقار الأمنية وسط المدينة.
يدخل فريدي (31 عاما) إلى متجر عبود يعطيه مسدسا صغيرا يطلب منه تصليحه. ويقول فريدي الذي يعمل صائغا في الحسكة: "قبل الحرب كان لدي بندقية صيد وكنت أتردد على المحل هنا لأصلحها بين الحين والآخر، ولكن منذ بدء الحرب اشتريت مسدسا".
ويضيف: "أبقيه معي كل الوقت، فقد شهدنا حالات خطف عدة خلال الحرب"، مشيرا إلى أنه يخشى أيضا من السرقة، خاصة أنه يعمل في تجارة المجوهرات.
"أسعار مقبولة"
أكثر الأعطال التي يصلحها جان عبارة عن أعطال ميكانيكية في مخزن الرصاص أو بيت النار ناتجة عن الاستخدام المتكرر للسلاح من دون صيانة.
ويرى جان أن خبرته الطويلة في تصليح بنادق الصيد سهلت عليه مهمته الجديدة. وبات يستقبل حاليا معدل عشرة زبائن في اليوم. ولا تكلف صيانة الأسلحة كثيرا وإن كانت تختلف بحسب نوع السلاح.
ويقول عبود: "الأسعار مقبولة ومتناسبة مع الواقع الاقتصادي في البلاد"، مشيرا إلى أن ثمن تصليح المسدس يترواح بين "ألف و5 آلاف ليرة سورية (دولارين إلى عشرة دولارات)" ويرتفع السعر بحسب نوع السلاح وحجمه.
ورغم أنها المهنة الوحيدة التي عرفها، إلا أن جان يرفض أن يورثها لأبنائه، بل يفضل أن يتابعوا تعليمهم ودراستهم ويختاروا مهنة أخرى بعيدا عن السلاح وخطورته، خاصة بعد تعرضه للتهديدات من قبل تنظيم الدولة.
ويقول: "تم تهديدي أكثر من مرة من أجل تصليح سلاح" لعناصر في تنظيم الدولة خلال تواجدهم في أحد أحياء المدينة قبل طردهم منها قبل عامين.
يأتي فايز (25 عاما) إلى المحل حاملا بندقيته من طراز كلاشنيكوف. يتسلمها عبود منه ويعاينها جيدا، فينظر من المنظار، ثم يفصل جزءا من البندقية ويعيد تركيبه. وما هي إلا دقائق حتى يعيدها إلى زبونه وقد تم إصلاحها.
دفعت الحرب في
سوريا فايز إلى حمل السلاح، بحسب قوله، حيث تطوع في إحدى المجموعات التي تقاتل إلى جانب جيش النظام السوري. ويقول وهو بلباسه العسكري: "لم أكن أتوقع يوما أن أتعامل مع السلاح، لكني اليوم بت أعتني بسلاحي وآتي لصيانته بشكل دائم".
"الخطأ الأول هو الأخير"
في حي العزيزية في مدينة الحسكة، يتوسط محل أبو محمد (47 عاما) متاجر عدة لتصليح السيارات وإلى جانبه لافتة كتب عليها: "تصليح كافة أنواع الأسلحة" مرفقة بصور لبندقية كلاشنيكوف ومسدس حربي وبنادق صيد.
يبدل أبو محمد قطعة في مسدس صغير ينهمك في تصليحه، وأمامه طاولة كبيرة وضع عليها أجزاء من بنادق ومسدسات، وإلى جانبها آلة يستخدمها لتصنيع قطع صيانة خاصة بالأسلحة.
لا يبدو أبو محمد فرحا بالعمل الذي يقوم به، خصوصا بعدما فرضت عليه الحرب تصليح أسلحة قتالية بدلا من بنادق الصيد التي اعتاد عليها.
ويقول وقد لطخت بقع من الزيت الأسود ثيابه ويديه: "دفعتني الحرب في البداية إلى ترك المهنة لفترة من الوقت، لم أشأ أن أتعامل مع الأسلحة القتالية".
إلا أن الحاجة الماسة إلى العمل أجبرته على العودة إلى مصدر رزقه الوحيد. واضطر منذ ذلك الحين إلى التعامل مع أسلحة مختلفة من مسدسات وبنادق آلية ورشاشات، محاولا قدر المستطاع أن ينأى عن الأسلحة الثقيلة.
ويوضح أبو محمد: "مهنتنا تحتاج إلى تركيز كبير وكأنك تتعامل مع الألغام"، مضيفا: "الخطأ الأول فيها هو الأخير". ونتيجة هذه الخطورة، ينتظر أبو محمد بفارع الصبر أن تتوافر له فرصة عمل ثانية ليترك هذه المهنة "إلى غير رجعة".
ويقول: "صيانة أي قطعة صيد تجلب المتعة لصاحبها أفضل بكثير من صيانة آلة الموت هذه".
لم يكن أبو محمد يتوقع أن تتحول سوريا إلى ساحة حرب طاحنة بهذا الشكل. ولكي يتمكن من الاستمرار في مزاولة هذه المهنة، يردد لنفسه باستمرار أن "كل البنادق والمسدسات التي أقوم بصيانتها هي للدفاع عن البلد، وليست لصناعة الموت فيه".