قمة "السقوط"

في روما، الحضارة ورمز القوة والزهو التاريخي، اجتمع قادة دول الاتحاد الأوربي قبل أيام للاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس تجمعهم الإقليمي في ظل دعوات من "زعماء" اليمين المتطرف في كثير من البلدان لاستعادة "الاستقلال الوطني" عن بروكسل، وعلى وقع الخطوات البريطانية الأولى للخروج من الاتحاد تطبيقا لنتائج استفتاء شعبي قد يفتح الباب لنسخ موزعة على التراب الأوربي.

ولأن الانغلاق على الذات لم يعد من أدبيات اليمين المتطرف بل تعداه إلى بقية التنظيمات السياسية من اليمين إلى اليسار، مع اختلاف المنطلقات والأهداف، فقد أراد القادة الأوربيون التأكيد مرة أخرى على أن الاتحاد ليس اقتصاديا أو سياسيا فحسب، بل هو اتحاد على منطلقات دينية قوامها المشترك المسيحي، فكانت الوجهة الأولى مقر الفاتيكان للقاء البابا فرانسيس، سليل أمريكا اللاتينية، لتلقي التوجيهات بخصوص حاضر ومستقبل القارة العجوز.

المسألة لم تكن يوما جغرافية بل دينية بامتياز، وهو ما منح الفرصة لسليل العثمانيين، رجب طيب أردوغان، للاستمرار في "تأديب" أوربا على ما اقترفته في حق وزرائه الممنوعين من لقاء الجالية التركية "خوفا على الديمقراطية بأنقرة". اعتبر أردوغان اجتماع قادة الاتحاد في الفاتيكان دليلا على "تحالفهم الصليبي" المبرر لرفض انضمام بلاده إلى مؤسسات الاتحاد رغم استيفائها للشروط.

ليس الأمر بالجديد، ففي العام 2005 شدد البابا بنديكتوس السادس عشر على الجذور المسيحية لأوروبا التي لا يمكن التخلي عنها، وقبله بسنة واحدة أسف سلفه يوحنا بولس الثاني لعدم ذكر تلك الجذور الدينية التاريخية للاتحاد في دستوره الجديد بالرغم من المحاولات المستميتة لسبع دول لتحقيق ذلك. لكن كثيرا من المؤشرات تؤكد أن ما لم يتم تضمينه في الدستور، يتحقق على الأرض بالتدريج بعد أن تحولت "حرية ممارسة المعتقد" إلى نوع من التهديد للنموذج الأوربي "المسيحي".

بمدينة لندن تأكد قبل أيام أن مجرد لبس الحجاب يجعلك إنسانا بلا رحمة ولا ضمير. كيف لا والفتاة المسلمة المحجبة ضبطت في حالة تلبس ب"اللامبالاة" على جسر ويستمنستر حيث بدت في الصورة الملتقطة غير آبهة بضحية عمل إرهابي ممدد بمقربة منها.

نسي دعاة الإنسانية أن مئات من الضحايا سقطوا على بعد آلاف الكيلومترات من هناك بالموصل العراقية جراء قصف قوات التحالف لمناطق مدنية، بعد أن فشلت في تحقيق النصر الموعود ضد تنظيم يسمي نفسه، ويا للمصادفة، باسم "الدولة الإسلامية" في مواجهة الحملة الصليبية على أرض الإسلام. الإنسانية كل لا يتجزأ والدم الآدمي هو نفسه طاهر بلندن وباريس والموصل وبغداد.

لا يكف الغرب، وأوروبا في مقدمته، من اتخاذ وضعية المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية ذريعة للطعن في الدين الإسلامي الذي لا يرى من المرأة غير جسد للافتتان. لكن المتأمل للأطروحات الأوربية يخرج بقناعة ملخصها أن الغرب لا يرى في المرأة غير مفاتن جسد تمنع التعاليم الدينية من إظهارها للعوام، وهي بذلك لا تختلف في شيء عما تسعى لمحاربته لدى "المتشددين".

ولعل في الحكم الأخير للمحكمة العليا الأوربية الذي يجيز لأرباب العمل منع الموظفات المسلمات من ارتداء الحجاب وفصلهن في حال الامتناع باعتباره رمزا دينيا دليل آخر على ما سلف. صحيح، أن الحكم قيد الإجراء بعدد من القواعد وترك للمحاكم المحلية القدرة على مواءمة الحكم مع المعطيات الخاصة للبلد المعني، لكنه في الأخير استهداف واضح لحرية ممارسة العقيدة عند المسلمات على الخصوص. يأتي هذا في وقت تشهد فيه التنظيمات اليمينية انتعاشا في مختلف مؤسسات البلدان الأوربية، بما فيها المؤسستان القضائية والأمنية، بما يسمح لها بشرعنة أطروحاتها وتطبيقها على المقاس الجديد.

ألم تمنع المآذن في سويسرا واعتبرت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن مظاهر الصلاة في الشوارع يوم الجمعة "احتلالا"؟ ألا تعتبر معاداة الإسلام خطا سياسيا معلنا لحزب الحرية الهولندي؟ المسألة في أوربا مسألة وقت، فالمستقبل للأفكار اليمينية التي صار اليسار واليمين "المعتدل" زبائن موسميين ودائمين عليها. وما الرموز الدينية والفلسفية إلا وعاء مطاطا لتمرير القرارات، والضحية حجاب ونقاب وبوركيني، وفئة نشيطة مسلمة صارت مخيرة بين القناعات الدينية وإكراهات سوق الشغل بشكل ينمي عزلتها الاقتصادية ويكرسها.

وإلى منطقة البحر الميت، أخفض منطقة بالعالم، تداعى رؤساء وملوك وممثلو دول و"أشباه دول" للمشاركة في مؤتمر "قمة" عربية دونما حاجة للمرور ب"مرجعية" دينية موحدة فما يبعدنا في الدين والسياسة أكبر بكثير مما يقربنا مهما كتب الشعراء وتغنى المطربون. الخطب العصماء معدة سلفا والتوصيات لا تحتاج إلا لنفض الغبار عنها، أما المرجعية الحقيقية  ففي واشنطن مستقرها والسيد دونالد ترامب جالس على عرشه في انتظار زيارات بعض من المجتمعين بعد أيام لتقديم أوراق الاعتماد وآيات الولاء مشفوعة بلقب "سيدي الرئيس"، كما ناداه رئيس وزراء باسم "العبادي" قبل أيام وكله فخر وزهو باستقباله من طرف الكفيل الأمريكي فقد يساعد ذلك على نسيان ما التقطته الكاميرات ذات تزلف ومحاولات اقتراب من الساكن السابق للبيت الأبيض انتهت بخيبة أمل وهدر كرامة على الأشهاد.

بدعوات الترحيب والشكر ودعوات توحيد الصف، وباستعراض الأغنياء لعطاياهم، والعسكر لجيوشهم والفقراء لاستجدائهم استهلت "القمة" وقائعها وانتهت غير مأسوف على انتهائها، لولا بعض من اللقطات النادرة بدأت بمشاهد السقوط من على سلالم الطائرات إلى منصات التصوير بما يؤكد لمن لا تزال على عينيه غشاوة أنها، كسابقاتها، مجرد قمة ل"السقوط العربي". وحده قائد الانقلاب أصر على أن يشمل السقوط "العزة والنخوة والخلق العربي" فتسلل هاربا من قاعة الاجتماعات، على خلفية كلمة أمير دولة قطر، ووراءه أتباعه في مظهر من مظاهر الخزي والعار العربيين دونما احترام للمناسبة ولا للدولة المضيفة وبقية الحاضرين. نسي قائد الانقلاب أن خيانته موثقة بالتسريبات وتابعه في الخارجية يقرأ على مسؤول إسرائيلي تفاصيل اتفاقية "بيعه" تيران وصنافير طلبا للإذن في التنفيذ.

في أخفض منطقة بالعالم، ما كان أحد ينتظر قرارات تطفو على سطح البحر، لكن أقوى المتشائمين ما كان يعتقد أن السقوط قد يصل إلى هذا القاع الآسن. لكنها "أخطاء الكاستينغ" ساهم فيها البعض بصمته وآخرون ب"الرز" وكثيرون بشماتتهم من "ربيع عربي" لم يتورع "القادة" على اعتباره مرحلة سوداء شغلت البلدان عن التنمية وأفضت إلى هدر زمني للتقدم بمقدار ست سنوات لا تمثل في الواقع شيئا أمام سنوات حكمهم المديد.

السقوط قدر عربي في "القمم" كما السفوح، في الدول وأشباهها وفي البحار الحي والميت منها. والنتيجة "دولة إسلامية"  تستقطب الأتباع في مواجهة النقيضين: الدولة "اليهودية" ودول "الإرث المسيحي".