سؤال وجه لي بعد مقالين كتبتهما عن طهارة الكلاب، وجواز اقتنائها وفق ضوابط ذكرتها، وموضوعات أخرى ناقشتها في مقالات لي عن أمور أخرى يرى المتابعون أنها لا تمت بصلة مباشرة بالسعي لإسقاط الانقلاب العسكري في مصر، أو مواجهة الظلم، وكلما طرح أحد موضوعا من موضوعات حياة الناس المعيشية في الإعلام المساند للثورة، والمناهض للانقلاب، يواجه بهذا السؤال: هو ده وقته؟! الناس تعاني من انقلاب عسكري، وظلم باطش، وتتكلمون عن قضايا معيشية للناس؟!
وهو كلام ينطلق من عدم فهم متكامل للإسلام، بل من فهم جزئي، يريد حصر اهتمام الناس في قضية واحدة على أهميتها، لكن الحياة لا تقف عند قضية واحدة مهما كانت أهميتها، بل حصر اهتمام الناس فيها وحده يصيبهم بالملل، وهو ضد طبيعة الحياة، وضد طبيعة الدين نفسه، فالناس رغم مرارة حلوقها من الظلم، ورغم حراكها ضده، وسعيها لتحقيق القضايا الكبرى العادلة ونصرتها، هناك مطالب للحياة لا تسير الحياة بدونها، وهو ما فعله خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، فمع خوضه معارك الإسلام الكبرى، كان في ظل هذه المعارك، يمارس الإسلام بكل ما فيه، من جد ومزاح، ومن عظائم الأمور، ومن صغائرها، فحياته مع جهاده فيها زواج، وعزاء، وصلاة، وتيمم، ووضوء، وتلاوة قرآن، وأحكام تفصيلية لو نظر إليها الإنسان معزولة عن سياقها لأصابه سوء الفهم والتقدير في التواصل مع الناس، وحسن خطابهم.
وسأضرب لذلك نموذجا واحدا من جهاد ونضال محمد صلى الله عليه وسلم، لنرى هل فرغ طاقته وجهده للغزوة التي يغزو فيها فقط، فلا حديث له إلا عن الجهاد، ولا حديث له إلا عن العدو، وكيف ينتصر عليه فقط؟ أم أنه مارس مع جهاده شؤون الحياة الأخرى، ومن ذلك غزوة مهمة في تاريخ الإسلام، وهي غزوة (تبوك)، وكانت ضد قوة إقليمية ودولية كبيرة وهي الروم، ومع ذلك فإننا لو رجعنا للغزوة وأحداثها، والدروس والأحكام الفقهية التي أخذت منها، لرأينا ممارسة عملية تغيب عنا للأسف.
وبالرجوع فقط لكتاب (زاد المعاد) لابن القيم- الجزء الثالث منه، في فصل عنوانه (في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد)، فإنك تجد هذه الأحداث والأحكام: (إذا استنفر الإمام الجيش لزمهم النفير، وجوب الجهاد بالمال، لا يعذر العاجز بماله حتى يبذل جهده، استخلاف الإمام إذا سافر رجلا من الرعية على من بقي، جواز الخرص للرطب على رؤوس النخل (وهي مسألة في فقه الزكاة)، لا يجوز الطبخ الشرب ولا الطبخ ولا العجن ولا الطهارة من آبار ثمود، الإسراع والبكاء حين المرور بديار المغضوب عليهم، جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، جواز التيمم بالرمل، استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها، تركه صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين لتأليف القلوب، جواز دفن الميت ليلا، جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا به). هذه بعض عناوين فقط دون دخول في التفاصيل لأحكام وأحداث صاحبت غزوة تبوك، نراها قد طافت على أمور حياتية ودينية بين أمور هي أصول وكبرى، وأمور فروع، ومع ذلك لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم، البيان فيها لعلة الجهاد، وأننا في حالة حرب، لأن حياة الناس تسير شئنا أم أبينا، وعلينا أن نواكبهم فيها، بما يحل ويحرم عليهم، وبما ييسر لهم هذه الحياة، وفي غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى نفس الدروس.
أما المرفوض في الأمر فهو الصمت عن ظلم الناس، في وقت يحتاجون فيه البيان، والأكثر رفضا هو الصمت على الدماء وقت سفكها، أو القبول والرضا بها، أو التحريض عليها، أما رفض ذلك، وإعلان موقف الشرع منه فهو ما يقوم به علماء لا يخشون في الله لومة لائم، فضلا من الله ومنة. أما تلبية حاجات الناس الدينية والشرعية في ما يمس حياتهم، فهو مهم أيضا يجب أن يقوم ببيانه أهل العلم.
[email protected]