ذات يوم في السادسة مساء، سيقول طفل لأخيه التوأم فيما هما يلعبان: «تعال نحرّر فلسطين بينما الماما تحضّر العشاء».
الحوار مُتخيّل طبعا، لكنّه قد يغدو فعليّا إذا اتّسعت «ثقافة المقاومة» و«تعمّقت». للتوضيح، «ثقافة المقاومة» لا علاقة لها بالرواية أو الشعر، ولا بالنحت والرسم والسينما والموسيقى... إنّها تستوحي لنفسها المعنى الأنثروبولوجيّ الأعرض الذي يمنح التعبير دلالة تقارب طريقة الحياة.
وطريقة حياتنا يراد لها أن تغدو هكذا: نافذ إيرانيّ يقول إنّه يقضي على إسرائيل بسبع دقائق ونصف. نافذ لبنانيّ يهدّد بقصف المفاعل النوويّ في الدولة العبريّة. نافذ عراقيّ أشدّ تواضعا يكتفي بإبداء الرغبة في تحرير الجولان السوريّ المحتلّ...
«
العفو عند المقدرة» لم يعد من شيمنا.
وأمّا والحال هذه، فلا بأس بالمصارحة: لقد كان أحمدي نجاد يسلّينا أكثر. كان يحلم ويأتينا بلوحات سورياليّة للسياسة والمستقبل. كان يستنزل الأنبياء والرسل إلى ساحات القتال، وكان في وسعه أن يسبغ بعدا ملحميّا يفتقر إليه الآخرون... الواقعيّون!
طريقة الحياة هذه تنضح بسلوك هو سلوك «قبضاي الضيعة الفشّاط». وقد سبق مرارا أن رأينا «القبضاي» هذا يعمل بكامل طاقته. عشيّة حرب 1948، مثلا، قال شكري القوتلي للحاج أمين الحسيني إنّ كلّ ما نحتاجه للحرب بضع مكانس لكنس اليهود. وفي 1964، جزم أمين الحافظ، أوّل رؤساء البعث في سوريّة، بأنّ أربعة أيّام لا أكثر كافية لتحرير فلسطين. ولطالما غنّينا، مع محمّد عبدالوهاب، قول علي محمود طه: «صبرنا على ظلمهم قادرين...» (أي بترجمة عامّيّة: انهزمنا أمامهم حتّى نشوف شو رح يطلع منهم).
هذا السلوك ليس جديدا. الجديد فيه أبطاله. بعد هزيمة 1967، غادرنا جمال عبد الناصر وهو حائر. «حرب الاستنزاف» أكثر ما يستطيعه في الحرب. أمّا السلم فيردعه عنه تاريخه والآمال التي أطلقها وضخّمها هو نفسه فصارت قيدا عليه. أنور السادات غادر المأزق بـ«حرب تحريك» في 1973 جرّ فيها وإليها حافظ الأسد، «الذكيّ» و«الاستراتيجيّ العبقريّ»، ثمّ توّج تحريكه بكامب ديفيد. هكذا انخرط في السلام المتنُ الأعرض للسنّيّة العربيّة، أي مصر.
بعد 15 عاما، انخرط المتن الفلسطينيّ الأعرض ممثّلا بـ «منظّمة التحرير». بعد عام لحق بها الأردن. العالم العربيّ -ممثّلا بدوله وقواه الأبرز- لم يعد بعيدا من هذه الوجهة: علاقات تجاريّة مع الدولة العبريّة من هنا، و«حوار» من هناك... حركة «حماس» بدت نافرة جدّا.
لغة «قبضاي الضيعة الفشّاط» صارت، في ما بعد، لغة أقليّة، ولغة إيرانيّة. من «يا قدس إنّا قادمون» إلى «الانتصار الإلهيّ» مسيرة من المزايدات توسّطها حلول المقاومة الشيعيّة اللبنانيّة محلّ المقاومة السنّيّة الفلسطينيّة. هذا الاستبدال، الذي استفاد من غزو 1982 الإسرائيليّ، رافقه دم كثير في طرابلس والمخيّمات ومناطق كثيرة من لبنان.
السلوى الدمويّة بحياة الفلسطينيّين وبالحقّ الفلسطينيّ، لتسمين نظامي الأسد والخامنئي، صارت مكشوفة جدّا، لا سيّما حين غدت كلّ قرية في سوريّة يحجّ إليها مقاتلو «حزب الله» «طريقا إلى القدس». لكنّ اللعبة الآن أخطر كثيرا من ذي قبل: الإسرائيليّون متخوّفون من تمدّد إيرانيّ إلى سوريّة تكرّسه الصيغ النهائيّة التي سترسو عليها الخريطة واقعا نهائيّا. الأمريكيّون والأتراك، والروس في أغلب الظنّ، يشاركون الإسرائيليّين موقعهم وموقفهم. فوجود إيران الدائم في سوريّة، ووجود امتدادها «حزب الله»، مصغّر عن الصواريخ السوفياتيّة في كوبا قبل أكثر من نصف قرن. هذا الوجود، كتلك الصواريخ، ينبغي أن يُسحب. إنّه من المعطيات الاستراتيجيّة الكبرى التي تستجرّ الحروب، والحرب المحتملة اليوم، ضدّ النفوذ الإيرانيّ، قد تدور فوق رؤوسنا، وفي الوقت عينه برؤوسنا.
يبقى أنّ إسرائيل، الشرّيرة والاستيطانيّة، لديها القدرة على إنزال الأذى بلبنان على النحو الذي هدّدنا به نفتالي بينيت. لا «قبضاي الضيعة الفشّاط» يردعها عن ذلك، ولا أخلاقها هي بالطبع. لهذا نحتاج اليوم إلى قدر من العقل والنزاهة يفوق ما احتجناه في أيّ وقت مضى. وهذا حتّى لا نموت فدى الرغبة الإيرانيّة بالتوسّع، المصحوبة بالرغبة الأقلّيّة في المزايدة على الأكثريّة. أمّا الطفلان، اللذان تشرّبا «ثقافة المقاومة»، فأفضل لهما أن يتناولا عشاءهما باكرا قبل أن يبرد، وأن يعزفا عن تحرير فلسطين.