يبدو أننا سنكون أمام جولة دماء مختلفة. «حرب على الإرهاب» موازية للحرب على الإرهاب. الإدارة الأمريكية الجديدة تبحث عن المسرح المقبل للمواجهة مع طهران. العراق أم سورية ولبنان؟
وفي مقابل ذلك أعلن الحرس الثوري الإيراني أن بإمكانه تدمير إسرائيل، وكشف أحد قادة الحشد الشعبي العراقي تشكيل «كتائب لتحرير الجولان السوري»، وها نحن ننتظر إطلالة وشيكة لأمين عام حزب الله حسن نصرالله، يُكمل فيها حلقة المواجهة العتيدة.
وفي هذا الوقت يتوجه بنيامين نتانياهو إلى موسكو ليبحث فيها مع فلاديمير بوتين قضية الجولان وضرورة إبعاد النفوذ الإيراني عن الحدود السورية الإسرائيلية، ويشير إلى «إرهاب شيعي» في مقابل «إرهاب سني»!
علينا أولا أن لا ننسى مصدر العبارة التي نقاتل كلنا اليوم في ظلها، أي «الحرب على الإرهاب». فاستعادة هذا الاشتقاق تساعد على توقع ما ينتظرنا. «الحرب على الإرهاب» مصطلح غربي بالدرجة الأولى، وهذا ليس من باب التشكيك به. إيران اليوم منخرطة في «الحرب على الإرهاب»، وهي سارعت لتبني المصطلح غير آبهة بحقيقة أنه سيشملها قريبا.
«داعش» على وشك أن يُهزم، وثمة مؤشرات على أن المصطلح سيستمر في تغذية حروب جديدة. والقول إن إيران براغماتية وإنها ستنكفئ في اللحظة الأخيرة، صحيح إذا ما كانت إيران نفسها مسرح المواجهة. أما المسارح الموازية، أي العراق وسورية ولبنان، فهذه سبق أن اختبرنا فيها مغامرات ذهبت فيها إيران إلى حدود لا رجعة منها. لبنان لم يعد لبنان لأن إيران فيه أقوى منه، وسورية لن تعود سورية بفعل الخرائط الإيرانية بالدرجة الأولى، أما العراق فلم تكترث إيران فيه لمستقبل العلاقة بين مجموعاته، وقاد قاسم سليماني حروبا مذهبية تحتاج مداواتها إلى قرون.
يلوح اليوم أفق مواجهة بين تحالف ترامب نتانياهو من جهة وإيران وهلالها الشيعي من جهة أخرى. ويبدو واضحا أن إدارة ترامب اختارت تقويض النفوذ الإقليمي الإيراني كمدخل لمواجهة غير مباشرة مع طهران. و «غير مباشرة» تعني أن وقود المواجهة ستكون مجتمعات المشرق، ذاك أن إيران تمسك بثلاثة أنظمة سياسية في كل من الدول الثلاث، العراق وسورية ولبنان.
والرهان على أن حزب الله اللبناني مرهق جراء خوضه الحرب في سورية، وأن بشار الأسد لا يحتمل حربا مع إسرائيل، وأن العراق منصرف إلى حروبه الداخلية، لا يكفي للاستنتاج بأن الحرب لن تقع وأن طهران ستراجع حساباتها، وهو ينطوي على وهم جرى اختبار عدم صحته في أكثر من مناسبة.
وفي الحساب الإيراني لا قيمة للخسارة إذا ما تكبدتها المجتمعات المستتبعة، ولنا في العراق وسورية ولبنان عشرات الأمثلة على ذلك. فأن تكون إيران ومدنها ومجتمعاتها مسرحا للمواجهة فهذا سيُعرض النظام لاحتمالات التقويض من داخله، أما أن يكون الأفق الإمبراطوري هو المسرح فأكلافه في وعي جهاز السلطة ستقتصر على تنافس على النفوذ، ولن يكون لتصدع المجتمعات ولأنهار الدماء أثر مباشر على بنية نظام ولاية الفقيه.
الحرب على «داعش» بصفتها حرب جبهات ومدن، على وشك أن تنتهي.
تركيا بدورها حددت مهمتها ب «الممرّ» الكردي، وهي مستعدة للمفاوضة على رقابنا مقابل هذا الهم الضيق.
إيران ستقاتل بنا، فيما نظامها السياسي والأيديولوجي سيكون في منأى عن المواجهة المباشرة. فقد استثمرت طهران في ذلك، واليوم يمكننا أن ندرك سبب الأثمان التي دفعتها في سورية، وقبلها في لبنان والعراق. الخطوات المُنجزة في سياق تحويلنا دروعا للمواجهة لا تُحصى. في لبنان لها جيش أقوى من جيشه، وفي العراق لها الحشد الشعبي، وفي سورية لها النظام ومليشياته.
وفي مقابل ذلك سيتجنب ترامب عبر خوض مواجهة مع إيران خارج أرضها تعقيدات الشروط الغربية على هذه المواجهة. لن تتمكن الدول التي وقعت على المعاهدة النووية من مطالبته بالالتزام ببنودها، فالمواجهة ستكون على نفوذ طهران الإقليمي وليست على العقوبات المرفوعة عنها بفعل المعاهدة. إنه «الإرهاب الشيعي» على ما أشار نتانياهو في محاولة لإعادة إنتاج المصطلح وفق شروط الحرب المقبلة.
وإسرائيل تشبه إيران في حقيقة أنها ليست معنية بغير حدودها، وهي مستعدة لأنهار من الدماء خارجها، ومرة أخرى لنا معها تجارب هائلة على هذا الصعيد، فهي في 2006 باعت حزب الله «نصرا» دفعنا نحن ثمنه، وهي غير معنية بما يجري في سورية إلا في حدود انعكاساته على أمنها. وإسرائيل اليوم خارج المواجهة مع «داعش» على رغم الإمارة التي أقامها الأخير بالقرب من حدودها، وهي معنية ببقاء الأسد في السلطة طالما أنه ما زال ملتزما عهد والده إقفال الحدود والانتقال للحرب على السوريين.
نحن لا شيء في سياق هذه المواجهة. لسنا أكثر من ضحايا لا إرادة لهم في تقرير موقعهم. لقد انتخبنا من سلم حزب الله السلطة في لبنان، وعجزنا عن إسقاط بشار الأسد في سورية، وأحللنا مكان صدام حسين في العراق صدامات صغارا.
في السنوات العشر الأخيرة قطعت مجتمعات المشرق مراحل تصدع لا يمكن العودة عنها. فلم يعد مفيدا تذكير سعد الحريري في لبنان بأنه سلم لبنان إلى طهران، وفي هذا السياق يبدو أن المراهنين على انشقاق بشار الأسد عن طهران والتحاقه بموسكو، يعيدون تكرار الوهم الذي سقطوا فيه في لبنان عندما اعتقدوا أن الحريري في السلطة هو شريك طهران فيها، وأن نوري المالكي ومن بعده حيدر العبادي هما حلفاء طهران وليسا أدواتها المباشرة.
نحن الآن أمام هذا الواقع، ولا يمكننا أن نغير فيه شيئا، فنتنياهو حقيقة أقوى منا، ونظام الملالي يمسك بما تبقى من رقاب حاولت التفلت من هذا المصير البائس. أما الجديد في سياق هذه المأساة، فهو دونالد ترامب، الذي سيضفي على هذا الانهيار بعدا جديدا، ذاك أن وعيه لا يرشحه لأكثر من اعتقاد مفاده أننا كلنا مجرد إرهابيين.