كتاب عربي 21

إعدام أول شبيه للرئيس

أحمد عمر
1300x600
1300x600
في البلدة سبع!

داهمت الجمارك التي كان لها اسم شعبي وقتها، هو الريجي، منزل "فرج لالو" عشرات المرات بحثاً عن التبغ المهرب، قلبتْ البيت فوقاني تحتاني، لكنها لم تعثر على شيء.

فرج لالو هو سيد المهربين في بلدة عاموده السورية المتاخمة للحدود التركية، يملك باصاً ينقل به المسافرين عبر الحدود، وفي كل رحلة يُفتَّش الباص تفتيشا دقيقاً، لكن الجمارك لم تعثر على ضالتها قط. نحن الآن في سنة 1971 عقب الحركة التصحيحية الوليدة، البلاد ليس فيها فروع مخابرات، والأرياف لا تزال تتمتع بهامش كبير من الحرية. معظم الرعاة وأرباب الأعمال الزراعية مسلحون مثل الكاوبوي، إلا أنهم يعلقون المسدسات على صدروهم بسيور وأنطقه تشد على الكتف، وليس على الخصور، والمسدسات هي للتباهي وعلامة فروسية، يتجولون بها في الأسواق مثل الليوث الضراغم، واستخدامها الأشهر هو في الأعراس، ما إن يصل الرجل إلى العرس، حتى يطلق لنفسه إحدى وعشرين طلقة رئاسية، تحية وإعلانا عن لوصوله. كل أبناء الشعب السوري كانوا رؤساء قبل الحركة التصحيحية النكراء، التي قلبت صورة سوريا من الرمادي إلى الأحمر الدموي.

حتى الأطفال كانوا يدخنون في البلدة، يغافلون الآباء، ويدخنون سراً أعقاب سجائرهم. في السهرات يجتمع الآباء على ضوء القمر صيفاً، وعلى ضوء المصابيح الكازية شتاء، ويبدؤون لعبة يمكن وصفها "بلياردو التبوغ" وهم يحلّون السهرة بسكر الأخبار والطرائف.

تدار أقداح الشاي ثملة بحلاوة السكر حتى تغير دينها، بإبريق كبير بحجم الديك الرومي، ما يلبث أن يعود إلى رقدته على بيض الجمر الأحمر بعد أن يجعل الأقداح تئن من البخار، ويشرع الرجال في تقاليد كرم اللعبة، فيدفع الساهر الكريم بعلبة التبغ الفضية، داعياً صاحبه في المجلس على الضلع الآخر إلى تذوق تبغه: خذ جرب تبغي يا ملّا، تبغٌ رعى من رياح جبال طوروس.

ويرد الملا: تبغي أيضاً طيب، من بحيرة وان، خذوا الحكمة من روح التبغ. 

ويرسل علبته الفضية، فتنزلق على اللباد مثل الصابون، لتصل إلى حضن يدي صاحبه.

جرب هذا التتن يا صوفي، يا سيدا ، يا روحي، يا حجي، يامخالتي، ..

اللعبة على أشدها.. لا أحد يرسل علبته الثمينة المزينة بالنقوش و الأهلّة حتى تصل إليه علبة زميله منعاً من وقوع حوادث صدم غير محمودة.

يفتح الساهر العلبة، ويشم التبغ، بأنف العاشق، فيمدح كبكوبة شعر الجن، الذي يفعم الرأس بنكهة الجبال، ثم يطفق في لف لفافة أسطوانية، مدكوكة دكاً، كأنها مصنوعة في مصنع، مثل رصاصة بندقية عيار 13، ويقول: بعد أول نفس يلامس الأسناخ الرئوية العطشى: تبغ طيب، له عبير طيب، ماذا فعلت به يا فرج حتى صار له كل هذا الطيب والنكهة؟

يقول فرج: تبغ طيب، خلقة الله.

السؤال الأهم لم يكن قد أجاب عنه بعد، فقد داهم مدير الناحية بيته، وسمع الجيران إطلاق نار فيه.
خبرنا ما الحكاية يا لالو؟

يحمل الولد الإبريق الكبير من رقدته على بيض الجمر، وسرعان ما يتغير بالشاي  لون الكأس الزجاجي إلى الأحمر الخمري، بمنقار الإبريق الواسع. 

قال فرج: هذه المرة جاؤوا بشأن مختلف، لم أكن في الدار، استقبلتهم زوجتي، أختكم فصلة، قالوا لها: سمعنا أن فرج يربي أسداً في بيته.

ربطوا خيولهم بحديد النوافذ، ودخلوا جميعاً، مدير الناحية الجديد، رجل برتبة ملازم أول رقّي على عجل، وجيء به من الساحل بعد الحركة التصحيحية، ورئيس الشرطة أبو عمر الحولاني، يهدي مدير الناحية الجاهل المتهور إلى القوانين، ومعهما شرطيان. زوجتي تفهم العربية بصعوبة: أي أسد يا حكومة؟

قال مدير الناحية: البلدة كلها تحكي حكايته، أين هو؟

قالت لهم تفضلوا، وقادتهم إلى شجرة التوت، التي رُبط بها الأسد.

قالت لهم: هذا كما ترون ليس أسدا؟ 

وقف مدير الناحية ورئيس المخفر على الحيوان المقيّد بالأحكام العرفية إلى الشجرة: فعلاً ليس أسداً؟ لكنه يشبه الأسد، له لبدة؟ ما هذا الحيوان يا حرمة؟

قالت بالكردية، وأبو عمر يترجم لمدير الناحية الكردية التي تعلم بعضها إلى العربية: هذا كلب صيني نادر، من بلاد الإيغور، أحضره زوجي هدية من بعض أقاربه الأتراك. انظر ما أقصر جذعه.. الأسد رأسه كبير، وجذعه طويل، ويافوخه كبير، وله ذيل كالرمح المعقوف. 

رفع مدير الناحية بندقيته وسددها، وأطلق طلقتين، فقتل الكلب الذي كان قد أحسّ بالخطر في عيني مدير الناحية، وبدأ ينبح.

غضبت فصلة، وولولت من الرعب: لمَ قتلته يا عدو الله؟

قال عدو الله الذي لم يفهم الشتيمة: ينال من سمعة الرئيس الجديد، خلاص، سنعطي زوجك فرصة للتهريب بحريّة، عرفنا أسلوبه في التهريب، يرسل رجاله لإشعال معركة في جبهة، ثم يهرّب التبغ في جبهة أخرى.

وخرجوا من الدار تاركين جثة الأسد الصيني، من بلاد التيبت، وهي تنازع، وأولادنا مذعورين من صوت الرصاص.

قال حسو مختار الحارة الغربية القريبة من الحدود: لم نفهم لمَ قتل هذا العلج كلبك يا سبعي. كان الأولاد يتسلّون برؤيته، بيتك صار سيركاً بفضله.

قال: كما قلت لك، شاع أن الحيوان أسد، وهو يشبه الأسود، ويبدو أن موالي الرئيس سمعوا به، فغاروا على رئيسهم، وخافوا من انقلاب، فقتلوه من أجل الحفاظ على هيبة الرئيس.

لفَّ سيجارة جديدة: لن يطول المقام بالرئيس، فالشعب السوري يغيّر الرؤساء كل سنة، يدخنهم ثم يرميهم كأعقاب السجائر. الدورة الرئاسية السورية أقصر دورة في العالم.

ضحك الساهرون، لم يكونوا يدركون أن هذا الرئيس سيحكم سوريا كما لم يحكمها أحد من قبل ومن بعد، وأن الأسد الغيور حتى من كلب صيني، سيحوّل حيواتهم إلى حياتين: إما حمراء قصيرة، أو حياة حمراء طويلة، وتابعوا لعبة بلياردو التبغ، علب فضية مترعة بالتبغ تنزلق على السجاد، وتمضي إلى حتفها لامعة تحت ضوء اللوكس أو القمر، وضاحكة بتحويل أحلام جبال طوروس إلى دخان مبين.
3
التعليقات (3)
سامر الاحمد
الثلاثاء، 28-03-2017 11:31 ص
جميل جدا .... بارك الله يرعك وفكرك
المصرى أفندى
الأربعاء، 01-03-2017 09:54 م
الأستاذ أحمد عمر المحترم .. أحسنت وشكرآ جزيلآ
dalal ahmed
الثلاثاء، 28-02-2017 04:11 ص
ياسلام وكأنني شممت رائحة تبوغهم المتحلقة دوائر صغيرة في لجة دخان الابريق العملاق