هل للعلمانية جذر إسلامي؟ نستخدم مصطلح العلمانية هنا؛ لأنه الوحيد المتوافر الذي يوفر فهما مشتركا حول الموضوع.
من الواضح أن التساؤل عما إذا كان هناك جذر إسلامي للعلمانية ينطوي على فرضية ترى خطأ القول أن العلمانية بمعناها السياسي لم تعرف قبل التجربة التاريخية الحديثة للغرب، نتيجة لاستبداد مؤسسة الكنيسة بأمور الدولة هناك. ومن ثم إذا اعتمدنا مؤشر فصل الدين عن الدولة، وأهملنا مؤشرا آخر هو حياد الدولة دينيا، وحاولنا البحث عنه في تاريخ التجربة السياسية الإسلامية، فماذا نجد؟ سيقول مناهضو العلمانية إنك لن تجد دليلا واحدا على وجود أي درجة من درجات فصل للدين عن الدولة في هذه التجربة. لنرى.
يميز ابن خلدون في نظريته عن الدولة بين ثلاثة أنواع من الحكم يفصلها على النحو الآتي: الملك الطبيعي، وهو «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة». النوع الثاني هو «الملك السياسي، وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار». والنوع الثالث الخلافة، وهي «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ...». بالتالي فهذه الخلافة، كما يقول ابن خلدون هي «في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به».
لعله من الواضح أن الملك الطبيعي، بحسب ابن خلدون، هو أدنى هذه الأنواع في الترتيب الأخلاقي والسياسي لأنه يعتمد على «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة». يعلوه في الترتيب الملك السياسي من حيث إنه يستند إلى «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي». وتأتي الخلافة في قمة هذا الترتيب من حيث إنها تقوم على «مقتضى النظر الشرعي» قبل أي شيء آخر. ومن الواضح أيضا أن هذه الأنواع من الحكم لا يمكن وجود أي واحد منها في شكل صاف، ومن دون تداخل على الأقل مع بعض من صفات النوعين الآخرين، خصوصا في التاريخ الإسلامي. وإذا ما عدنا إلى مؤشر فصل الدين عن الدولة، برز سؤال عن حجم وجود هذا المؤشر في كل واحد منها.
هل يمكن أن يكون الدين غائبا تماما عن النوع الأول، مثلا؟ من حيث المبدأ ليس هناك ما يمنع من تبرير الغرض والشهوة باسم الدين، أو المصلحة العامة، أو ما يشابه ذلك. وتعتمد مساحة وجود الدين وحضوره في مقتضى العقل تبعا للمرحلة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية السائدة، وهو ما تقتضيه مرونة العقل، وميله إلى مجاراة والأخذ بالأسباب، والمصالح أيضا. أما النوع الثالث (الخلافة) فهو يقتضي بالضرورة وجود الدين وأولويته، لأن هذا النموذج تعبير عن المصلحة العامة قبل كل شيء، لكنها مصلحة ترتبط فيها مصالح الآخرة بمصالح الدنيا. وهنا تتداخل الأمور بحكم الضرورة.
بالتالي يبقى السؤال بالنسبة إلى هذا النموذج تحديدا: هل تختفي فيه معالم الغرض والشهوة تماما؟ وهل تتراجع فيه مقتضيات العقل أيضا؟ يستحيل تقريبا أن تكون الإجابة عن مثل هذين السؤالين بالإيجاب إلا في حالات استثنائية نادرة جدا.
لنأخذ مثال كيفية الوصول إلى الحكم في التجربة الإسلامية، ودرجة انفصال الدين عن الدولة فيه. في دولة النبوة، نجد أدنى درجات الانفصال بين الاثنين لأن النبي محمد (ص) وصل إلى الحكم لاعتبارات دينية، وهي اعتبارات النبوة التي اقتضت توصيل الرسالة السماوية، والتأسيس لحكم إسلامي جديد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل. لكن النبي من بني هاشم، وهؤلاء من بين أقوى عصبيات قريش. والحديث النبوي الشريف ينص على أنه «ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه». والمنعة هي العصبية والشوكة، وهي اعتبار دنيوي اقتضته نواميس الحياة الدنيا التي وضعها الله لتستقيم فيها أمور الناس، وتتحقق مصالحهم.
هنا نجد الانسجام، والتمايز في الوقت ذاته، بين مقتضيات الدين وضرورات الدنيا في هذه الحال. بعد وفاة النبي، ونظرا إلى عدم وجود نظام لانتقال الحكم، سيختلف أمر العلاقة بين الديني والدنيوي في هذه المسألة في شكل تدريجي متصاعد ما بين مرحلة الخلافة الراشدة، وما بعدها، وهو تاريخ طويل. فأبو بكر الصديق وصل إلى الخلافة (أو خلافة النبي في منصب رئاسة الدولة) بما يمكن اعتباره نوعا من الانتخاب من النخبة في المدينة. وكان حضور العامل الديني في هذا الانتخاب واضحا، والمتمثل في مكانة أبي بكر وسابقته الإسلامية.
لكن، كان هناك حضور واضح أيضا لعامل دنيوي مهم حينذاك، وهو عامل القبيلة الذي عبر عنه أبو بكر نفسه عندما خاطب الأنصار في السقيفة قائلا: «والله لن ترضى العرب أن يحكمها إلا هذا الحي من قريش». وكان يشير بذلك إلى المهاجرين، وجميعهم من قبيلة قريش. أيهما كان الأكثر فاعلية في فرض هذه الخلافة، عامل السابقة في الإسلام، أم عامل القبيلة؟ هذا سؤال مهم وشائك يتطلب تفاصيل لا يتسع لها المقام هنا. لكن في المحصلة يمكن القول أن السابقة، أو العامل الديني، كان الأرجح نظرا إلى حداثة التجربة، ولأن أبا بكر من تيم التي تعتبر من بين أضعف عصبيات قريش. لكن غياب عامل النبوة بوفاة النبي أفسح مجالا أوسع لعامل القبيلة (قريش مقابل الأوس والخزرج)، وهو عامل سياسي - دنيوي، والذي على أساسه كانت غالبية الجدل تدور في السقيفة حول من الأحق بخلافة النبي.
يمكن أن نقول الشيء نفسه عن خلافة عمر بن الخطاب نظرا إلى مكانته ودوره الكبيرين في الإسلام، ولأنه في الوقت ذاته كان من قبيلة عدي التي تعتبر أيضا - مثل تيم - من بين أضعف عصبيات قريش. في حال أبي بكر وعمر كان حضور العامل الديني في وصولهما إلى الخلافة هو الأقوى بين الخلفاء الراشدين.
وهناك ما يشبه الاتفاق على أن هذه المرحلة كانت النموذج المثالي للخلافة كما وصفها ابن خلدون وغيره من الفقهاء والمؤرخين. لكن اللافت أن هذا النموذج شهد أخطر فتنة، أو حرب أهلية، عرفها صدر الإسلام، وذلك بعد مقتل الخليفة الثالث، عثمان بن عفان. وسميت الفتنة لأن قسما من الصحابة اقتتلوا في حروب تداخلت فيها عوامل الدين مع مصالح الدنيا. وهو أمر يشير إلى أن حال الشد بين الديني والسياسي وصلت درجة حرجة تسببت في هذا الانفجار.
ملاحظة أخرى لافتة وهي أن هذه المرحلة لم تستمر، بما في ذلك الفتنة التي شهدتها، أكثر من 30 سنة من تاريخ يمتد الآن لـ 1438 سنة، وهو ما دفع كثيرين إلى اعتبار هذه الخلافة مرحلة استثنائية غير قابلة للتكرار، ولا تجيز بالتالي الاستناد إليها وحدها لتقرير الطبيعة التي كانت عليها علاقة الدين بالدولة في الإسلام. لكن أحد معالم الصراع أثناء الفتنة كان بين بني أمية وبني هاشم أقوى عصبيات قريش. واستمر بعد ذلك لزمن طويل. وهو استئناف لتنافس بين الطرفين كان من سمات المجتمع المكي قبل الإسلام. لا تنسف هذه الملاحظة المثالية النسبية إلى مرحلة الراشدين، لكنها تلفت النظر إلى أهمية التمييز بين ما قبل الفتنة وما بعدها، ودلالة ذلك بالنسبة إلى علاقة الديني بالسياسي في هذه المرحلة تحديدا.
يتفق الجميع تقريبا على أنه بعد نهاية الخلافة الراشدة وظهور الدولة الأموية، تغير الوضع بشكل كبير. أصبح هناك تمييز رسمي وواضح بين المجالين الديني والسياسي، وبين رجل الدين ورجل الدولة، وأن لكل منهما وظيفة تختلف عن الآخر، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ذلك. وهو ما يشير إلى أن سياق التاريخ السياسي الإسلامي انطوى على جذور ومؤشرات علمانية، وعلى العكس مما يعتقده كثيرون. للحديث بقية.