أثارت الانتخابات الداخلية الأخيرة في حركة حماس على غير العادة اهتماما إعلاميا ونقاشا في الفضاء المفتوح، وهو تطور يبدو طبيعيا بعد توسع حجم الحركة التنظيمي وفي ضوء الاستقرار الأمني الداخلي في قطاع غزة الذي يبطل علة الحذر الأمني، وهناك سبب آخر يفسر الاهتمام بهذه الانتخابات تحديدا وهو سبقها بحديث عن انتهاء فترة رئاسة خالد مشعل واعتزام الحركة اختيار رئيس جديد لمكتبها السياسي.
لكن اللافت أن أدبيات الحركة لا تزال تقوم على حظر أي نقاش علني في شؤونها الداخلية وتبدي حساسية تجاه التداول الإعلامي لهذه القضايا، ورغم أن إذاعة صوت إسرائيل أذاعت خبر الانتخابات مسبقا وحددت موعدها بعد صلاة الجمعة، إلا أن الطريقة السائدة في أروقة التنظيم لا تزال هي التهامس والتكتم واللجوء إلى الزوايا البعيدة عن أعين الناس، وهذا ما يقود إلى استنتاج بأن السرية التي يتصف بها العمل التنظيمي لا ترجع إلى أسباب أمنية دائما بل هي سمة نفسية يتشربها العاملون وتغدو مع الأيام جزءا من تركيبتهم النفسية تظل ملازمة لهم حتى بعد انتفاء مبرراتها العملية، فالتهامس يشعر الجماعة بالاقتراب وأجواء الألفة والدفء وقوة الرابطة ونخبوية الصف، والإنسان بطبيعته الاجتماعية يبحث عن انتماء يشعره بالقوة ويمنحه الهوية الخاصة، فإذا نشأت الجماعة في ظروف المطاردة والاستهداف أنتجت الماكينة النفسية نمطا من العلاقات النوعية الوثيقة داخل الصف فتتعمق في قلوب المنتمين أواصر المحبة والتعاضد والشعور بالخصوصية والاصطفاء ليستمدوا من هذه المشاعر قوة يحتملون بها الاضطهاد الخارجي.
مساحة الأسرار آخذة في التناقص في عالم بات مستلبا في كل تفاصيله إلى إدمان التكنولوجيا والإنترنت؛ في عالم كهذا تصبح حتى الخصوصية العائلية و التفاصيل الصغيرة في عهدة الشركات الكبرى تعطيها لمن تشاء من أجهزة المخابرات، ولم يعد طريق الحصول على المعلومة يمر بالضرورة عبر زراعة جواسيس في صفوف الأعداء، إذ يكفي مراقبة أجهزة الاتصالات ورصد ما يتداوله الناس في مراسلاتهم الإلكترونية للحصول على كنز من المعلومات الكافية لتحليل التوجهات واستنباط المعلومات.
لكن هذا السلاح التكنولوجي الذي أضعف من قدرة أكثر الجماعات انغلاقا وحيطة على التحصن الأمني الكامل لا يبدو سلبيا تماما، إذ إن النفع المتحقق من عمل الجماعات تحت ضوء الشمس أكبر من جدوى الأروقة السرية، فالأصل في النشاط الاجتماعي والسياسي هو العلنية، أما السرية فهي الاستثناء الضيق في حالات مثل العمل المسلح والهروب من القمع الشديد غير المحتمل.
العمل العلني هو الأصل لأن أي جماعة تهدف إلى نشر أفكارها والتأثير في الرأي العام وتشكيل كتلة شعبية مناصرة لها، وهذه الأهداف لا تتحقق إلا بأن يعلن المؤمنون بالفكرة عن أنفسهم ويتواصلوا مع الناس ويتقدموا الجماهير في جهود التوعية والحراك الميداني، وهذه القاعدة صحيحة في الحالة الفلسطينية أيضاً رغم المحاولات الدائمة لإظهار استثنائيتها، فلو استثنينا أنشطة المقاومة المسلحة فإن معظم حقول العمل الفلسطيني ذات طابع علني مثل العمل السياسي والتعبئة الجماهيرية والأنشطة الإعلامية والفنية والتثقيفية والخدمة الاجتماعية و أشكال المقاومة السلمية مثل التظاهرة والاعتصام والإضراب والمقاطعة.
العمل في الفضاء المفتوح يخلق أجواءً صحيةً ويعزز الشفافية ويسمح للطاقات الخلاقة بالتعبير عن نفسها و يعطي الفرصة الحقيقية للتنافس بين البرامج وفوز الأكفأ، أما العمل السري فيسوده الغموض والريبة ويعتمد على الثقة والتسليم ويتخوف من طرح الأسئلة، لذلك تتراجع في التنظيمات السرية مساحة الوضوح والشفافية والمحاسبة ويراهن فيها على تقوى المسئول ووازعه الفردي أكثر من المراهنة على كفاءة آليات المراقبة الجماعية، وهو ما يسمح بتسلل الانحراف والفساد وعجز القاعدة عن تصحيحه في ظل حرمانها من المعلومات الكافية والرؤية الواضحة.
ولعل من الشواهد الواضحة على التعارض القائم بين العمل السري والشفافية ظاهرة شاعت في الانتخابات الأخيرة وكثر انتقاد أبناء التنظيم وبعض القيادات لها علنا في مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الظاهرة تسمى "الكولسة" ويقصد بها تشكيل قوائم غير معلنة بين عدد من الأعضاء الذين يحق لهم التصويت يتبادلون بها انتخاب أنفسهم بهدف الصعود إلى مواقع إدارية أعلى في السلم التنظيمي، هذه الظاهرة التي ولدت رغم اعتماد التنظيم على مفاهيم صارمة مثل منع الدعاية ومنع تزكية النفس وعدم إعطاء الإمارة لطالبها تؤكد أن أجواء السرية والكتمان هي أجواء غير صحية وأن التغافل عن الطبيعة البشرية لا يخلق طبيعةً ملائكيةً بل يدفع الناس إلى الاحتيال والالتفاف ويخفي أمراضهم مما يمنع مواجهتها بالعلاج المناسب.
حماس اليوم ليست هي حماس الثمانينيات والتسعينيات، فهي قد غدت صاحبة الثقل الجماهيري والعسكري الأكبر في قطاع غزة، وتغير الواقع الأمني الذي كان مبررا لإحاطة أنشطتها بالسرية التامة، فالانتماء إليها في غزة لم يعد تهمة خطيرة، وقاعدتها التنظيمية اتسعت، والتحديات السياسية التي تواجهها تعقدت، ومراجعة بنيتها الفكرية ورؤيتها السياسية وتجربتها الاجتماعية ضرورة ملحة، وهي بعد ذلك لم تعد ملكا لنفسها بل ملك الشعب كله، فنجاحها سيعود بالخير على شعبها وإخفاقها سيدفع الشعب تكلفته الباهظة كذلك.
ثمة أصوات تعلو من داخل حركة حماس من بعض قياداتها وعناصرها تدعو إلى مراجعة نظامها الأساسي وخلق نظام ديمقراطي حقيقي داخل الحركة وأن تجري الانتخابات علنا وأن يفتح باب الترشح والتنافس على أساس البرامج لا الأشخاص، وأضيف دعوة أخرى أن تعقد الحركة مؤتمرها العام الأول وتستضيف فيه الآلاف من أبنائها والمئات من الشخصيات الوطنية، وأن تجري في هذا المؤتمر قراءة نقدية شاملة لسنواتها الثلاثين وتعيد صياغة سياساتها وأساليبها في ضوء توصيات المؤتمر.