في عرض له بملتقى بيونس آيرس حول الاتصالات، خلص نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل غور إلى أن "البنية التحتية الكونية سيكون من شأنها تسهيل اشتغال الديموقراطية عبر تحسين مشاركة المواطنين في عمليات اتخاذ القرار، وستشجع على التعاون بين الأمم. إني أرى عصرا أثينيا جديدا في الديموقراطية عبر المنابر التي ستخلقها هذه البنية".
لا يبدو من تمييز يذكر هنا بين مكوني الديموقراطية، بقدر ما يتراءى لنا الحديث عن شكل الديموقراطية التي من شأن ذات البنية أن تقيمها بين الأفراد والجماعات من ناحية، وفيما بين الأمم من ناحية أخرى. ويبدو أيضا أن الحديث إياه يفترض أن تكون "الديموقراطية" قائمة، وأن الإشكال إنما كامن في توسيع نطاقها وتسريع آليات بلوغ المواطنين لها. وهو لربما ما يقصده بيير ليفي عندما يتحدث عن "الديموقراطية الافتراضية".
إن المطبعة، يقول ليفي: "قد مكنت من خلق الدول/الأمم، وساهمت في تطور الرأي العام بفضل فضاء عام تمت هيكلته أولا عبر الصحافة ثم، فيما بعد، عبر الراديو والتلفزة... أما اليوم فإن الترابط العالمي للحواسيب قد أدى إلى خلق فضاء عام جديد سيكون من شأنه بالتأكيد بروز أشكال سياسية جديدة".
معنى هذا، وفق بيير ليفي، أن "توسع الفضاء الافتراضي سيقود إلى مزيد من الحرية الفردية والجماعية وإلى مزيد من التواصل والتداخل". ومعناه أيضا أن تكريس ديموقراطية "من هذه الفصيلة" سيؤدي حتما إلى تحرير المواطن من سلطة الدولة ويدفع باتجاه الشفافية وتراجع التراتبية: هذه الديموقراطية "ستكون أقل سلطوية وتراتبية، بالقياس إلى الديموقراطية التمثيلية التقليدية، وأقل انصياعا للمنطق الاستعراضي الخالص الذي تعبر عنه الديموقراطيات التشاركية".
لن يكون هناك من أداة لبلوغ ذلك، وفق ليفي، إلا الحكومة. وما دامت هذه الأخيرة "تعيش في ظل الشبكات"، فمن المفروض أن تتحول إلى "حكومة ألكترونية" تصيغ الخدمات انطلاقا من اختيارات المواطن، وتضع نفسها رهن هذا الأخير في الزمن والمكان: إن الحكومات، يقول ليفي، "إنما هي في طور الانتقال من علاقة سلطة تمارسها على الرعايا إلى علاقة خدمة للمواطنين الذين سيكون لهم معها يوما عن يوم الحساب والمحاسبة".
ليس ثمة من اختلاف كبير بين ما تبناه آل غور ببيونس آيرس وما تبناه بيير ليفي أعلاه، إذ يذهب الأخير إلى حد اعتبار "الديموقراطية الافتراضية الكونية" مكمن المصالحة بين الديموقراطية والسوق على اعتبار:
+ التطور الباهر لفضاء عام جديد بالإنترنيت، والتزايد الموازي لذلك في إمكانيات المعلومات والتعبير الحر والنقاش المواطناتي والتنسيق المستقل للحركات السياسية والاجتماعية.
+ وعلى اعتبار "أفق الحكومة الديموقراطية الكونية حيث ستكون العولمة الاقتصادية قاطرتها".
+ وبحكم "أن المقاصد المدنية والسياسية يمكنها أن تمارس عن طريق السوق، لا سيما وأن الفضاء الافتراضي سيخلق سوقا يوما عن يوم شفاف، حيث يمكن التعبير عن الاختيارات وفق مجال من الممكنات أوسع".
يبدو، بناء على ما ورد، أن "مستقبل" الديموقراطية إنما يمر عبر تكنولوجيا المعلومات وبنى الشبكات، لدرجة يخال الأمر معها أن توافر ذات التكنولوجيا والشبكات إذا لم "يخلق" الديموقراطية، فعلى الأقل سيساهم في تكريس مظاهرها الكبرى.
قد لا يستطيع المرء التنكر لما حملته تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال (لا سيما الإنترنيت ضمنها) من مزايا جديدة مكنت الأفراد والجماعات من تجسيد حقهم في التعبير و"المساهمة" في تدبير الشأن العام، أو فضح خروقات حقوق الإنسان بهذه الدولة أو تلك، لكن الحديث عن وفي "الديموقراطية الألكترونية" (على الأقل كتكريس لعلاقة الديموقراطية بشبكة الإنترنيت) إنما جاء في سياق الطابع "الديموقراطي" للنظام السوسيوتقني الذي ميز تاريخ "شبكة الشبكات"، لربما بغرض إضفاء الشرعية عليها، او إزاحة البعد العسكري الذي لازمها بقوة في بداياتها الأولى.
والواقع أن ما قد يعيبه المرء على طرح "الديموقراطية الإلكترونية أو الافتراضية" في تقييم عام أولي إنما ثلاثة أمور جوهرية:
+ الأمر الأول كونها تختزل الديموقراطية، في تعقد عناصرها وتعدد مرجعياتها وتباين المواقف منها، كشكل من أشكال التدبير السياسي، تختزلها في الشبكات (الإنترنيت في هذه الحال) ولا تحدد بالتالي مضمونها إلا على هذا الأساس.
والإشكال هنا لا يتعلق إطلاقا بالبلوغ، أي بلوغ الشبكات بغرض تجسيد القدرة على الممارسة في هذه الديموقراطية، بقدر ما يرتبط بطبيعة العلاقة بين المواطن والمؤسسات والتي من المفروض أن تحسم على أرض الواقع قبل أن يتسنى للفرد معاينتها بالشبكة فعلا وتفاعلا.
+ الأمر الثاني، أن الديموقراطية (كأداة وكثقافة) لا تتمظهر حاليا إلا في شكلها الانتخابي الدوري. أما ما سوى ذلك فلا يحول دون عودة الحكومات لسالف سلوكها حتى في ظل فرضية تزايد الاحتجاج على ذات السلوك.
بالتالي، فحتى بتسليم المرء بحل يختزله دومنيك روسو في "الديموقراطية المستمرة" كتجسيد للمراقبة المستمرة للمواطن على ممثليه، فإن عائق البلوغ الواسع للجماهير إلى الشبكة يبقى حاضرا بقوة، والذين لهم إمكانية ذات البلوغ ينتمون لنفس الشبكات الاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك.
بالتالي، فالنفور من ممارسة السياسة عبر شبكة الإنترنيت يبقى أمرا واقعا لا يمكن تجاوزه او التقليل من جدواه.
+ الأمر الثالث ويتمثل في القول بأنه على الرغم من تزايد مد العولمة وانفتاح الأسواق وتيسر تنقل تيارات المعلومات والمعارف، بفضل ثورة تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال، وتجاوز الشركات الكبرى وتيارات الرساميل للدول والأسواق الوطنية، فإن الفضاء العام لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينفصل عن المجال الذي تمارس فيه السلطة السياسية، إذ "إذا كان بإمكان الفضاء العام ان يكون محليا أو جهويا أو وطنيا أو دوليا أو عالميا حتى...فإنه لا يمكن إطلاقا فصله عن المكان الذي تمارس فيه السلطة السياسية".
والآية في ذلك هو أن الفضاءات الوطنية هي التي تتكرس في ظلها حقا الحقوق الفردية والجماعية الأولى والأسس المركزية للديموقراطية. صحيح أن الشبكات الألكترونية تساهم في الدفع بذلك، إلا أنها لا تعدو غير كونها شرطا ضروريا غير كاف، وغير ضامن لشيوعها كثقافة.