لا تعكس كلمات السيسي يوم الخميس الماضي عن رفض قبول أصحاب التوجهات الدينية في الجيش رؤية جديدة للحكم العسكري تجاه السياسيين، وإن حوت جرعة جديدة من الكذب على من لا يملكون الرد الآن سواء الرئيس مرسي أم غيره ممن يقبعون خلف قضبان السجون، أو الحواجز الزجاجية العازلة للصوت في المحاكم.
السيسي الذي يشعر بحصار الفشل له من كل جانب يبحث عن أي انتصارات أو يصطنع معارك وهمية مع خصوم مغلولي الأيدي، واللسان، فيدعي وبصيغة المبني للمجهول " أنه طُلب منه منذ 4 سنوات ونصف (أي أيام حكم مرسي) السماح بدخول فئات معينة، وأنه رد على هذا الطلب برفض دخول أي صاحب لتوجهات دينية"، فهو لم يذكر اسما واحدا ممن طلب منه ذلك ليس تأدبا أو حفظا لأمانة المجالس، ولكن لأنه لا يوجد من طلب ذلك، ولو كان هناك أحد طلب ذلك فقد كان السيسي أول المسارعين للتنفيذ في إطار عملية التضليل التي خاضها ضد رئيسه وضد ثورة يناير عموما، ورغم أنه لم يوجد طلب فعلي بهذا الأمر إلا أن السيسي ورجاله واكبوا المرحلة فعلا ورفعوا القيود غير القانونية وغير الدستورية التي كانوا يفرضونها على بعض المصريين لدخول الكليات العسكرية، بل إن الكثير من رجال السيسي دافعوا عن حق أبناء الإخوان في دخول تلك الكليات، فهذا هو اللواء عصمت مراد مدير الكلية الحربية يؤكد في مارس 2013 أن عدداً من أبناء الإخوان المسلمين التحقوا بالدفعة 109 حربية، مضيفا إن كون والد الطالب إخواني فهذا أمر لم يعد مؤثراً، وكل من خرج من بيت إخواني أو جهادي أو سلفي أو مسيحي أو أزهري يمكن قبوله داخل الكلية الحربية دون النظر إلى توجه أسرته على الإطلاق، مشيرا إلى أن التوجهات السياسية للآباء لا تعنى القوات المسلحة في شيء، بل كل ما يعنيها فقط القضايا الجنائية التي تمس الشرف، دون الحديث عن أي توجهات سياسية للآباء، لافتا إلى أن الطالب عندما يأتي للكليات العسكرية يخلع أي انتماء حزبي أو سياسي لديه، أو يكون البديل لذلك خروجه من الخدمة العسكرية ووقوعه تحت طائلة القانون العسكري الذى يحظر السياسة داخل الجيش، وهذه التصريحات الموثقة لمدير الكلية الحربية والتي لا تزال محفوظة هي أكبر تكذيب لكلام السيسي الأخير بأنه رفض إدخال أبناء الإخوان للكليات الحربية.
بعيدا عما تضمنه كلام السيسي من كذب على قادة سجناء ادعى أنهم طلبوا منه السماح بدخول أبناء الإخوان للكليات العسكرية (ادعت أبواق السيسي بأن الإخوان طلبوا حصة محددة في تلك الكليات تعويضا عن حرمانهم منها في الماضي) إلا أن جوهر رؤية السيسي ومن حوله للقوى السياسية أيا كانت إسلامية أو ليبرالية، ولحق أبناء المنتمين لتك القوى في الانضمام للمؤسسة العسكرية والأمنية هو استمرار لرؤية عسكرية سلبية مستقرة تجاه المدنيين عموما على مدى العقود الست الماضية (باستثناء فترة الحكم المدني المحدودة بعد ثورة يناير)، حيث يؤمن العسكريون أنهم الأكثر فهما وخبرة، والأجدر بحكم البلاد، والتحكم في ثرواتها وخيراتها وتوزيعها كغنائم عليهم مع ترك الفتات للشعب، وينعكس ذلك جليا على إصرارهم على إضفاء السرية على ميزانية المؤسسة العسكرية بشكل تام، ورفض مناقشتها من قبل ممثلي الشعب في البرلمانات المتعاقبة، وفي ظل هذه السرية تتوسع الإمبراطورية الاقتصادية العسكرية وتتغول على الاقتصاد بشكل خطير، كما ينعكس على حرصهم على منع أصحاب التوجهات السياسية من الالتحاق بكلياتهم العسكرية حتى لا يمثلوا خطرا على احتكارهم للسلطة مستقبلا.
نستطيع أن نتفهم حظر النشاط السياسي، أو ظهور الانتماءات السياسية والحزبية داخل الجيش، وهذا هو المعمول به في كل المؤسسات القومية والنقابية حيث أننا نخلع أرديتنا الحزبية على أبواب النقابات مثلا، وهذا ما أكدته التصريحات السابقة لمدير الكلية الحربية إبان حكم مرسي، ولكن لا يمكننا أن نتفهم حرمان أبناء المنتمين لعائلات سياسية من الانتماء للمؤسسة العسكرية، فهذا -علاوة على أنه يعكس تخوفا من منافستهم المستقبلية على عرشهم- فإنه يعكس شكوكا في وطنية هذه الأسر وأبنائها، وهذا يعني أن المهيمنين على المؤسسة العسكرية والذين يصدرون وينفذون تلك التوجيهات لديهم شكوك في وطنية قطاع كبير من الشعب المصري يمكن أن يكون بالملايين، وأتذكر شخصيا أنني دخلت في حوار غاضب مع أحد جنرالات المخابرات الحربية أثناء مشاركتي في دورة تدريبية في أكاديمية ناصر العسكرية أواخر التسعينيات بحضور عشرات الصحفيين والإعلاميين حول رؤيته للمخاطر على الأمن القومي والتي ذكر منها وجود أحزاب وصحف معارضة يستقي منها العدو معلوماته عن مصر!!!!، وقد تصديت له وقتها مفصحا عن كوني أنتمي لصحيفة حزبية (جريدة الشعب) وأنني أرفض إشاراته وإيحاءاته وشكوكه حول وطنيتنا التي نفخر بها، وفي رأيي أنه لم يكن مجرد موقف شخصي للرجل بل يعكس قناعات المؤسسة التي ينتمي إليها، ورؤيتها للحياة الحزبية التي اضطروا للقبول بها شكليا لكنهم أغلقوا أمامها كل فرص التغيير الديمقراطي.
أما الإخوان أنفسهم فلم يظهروا اهتماما بالالتحاق بالكليات العسكرية منذ منتصف السبعينيات، وقد كان بإمكانهم الالتفاف على الحظر المفروض عليهم كما فعل أخرون، لكنهم حرصوا على إرسال رسالة طمأنة من خلال ابتعادهم عن تلك الكليات بأنهم لا يرغبون في ترتيب انقلابات عسكرية، علما أن الجماعة كان لها باع كبير في حركة الضباط الأحرار التي سبقت 1952 من خلال اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف والصاغ محمود لبيب، كما أن قيادتها العليا ضمت اثنين من كبار العسكريين عقب عودتها منذ منتصف السبعينيات وهما اللواء صلاح شادي واللواء إبراهيم شرف (السكرتير العام للجماعة).
كلام السيسي الأخير هو محاولة لاستثارة العسكريين عموما ضد الإخوان، وإشغالهم في حرب مع عدو مصطنع بعيدا عن العدو الحقيقي الذي أصبح السيسي عميلا واضحا له، ويبدو أنه تلقى تقارير عن حالة غضب متنامية داخل القيادات الوسطى من الضباط بسبب تفريطه في السيادة الوطنية والتراب الوطني، ناهيك عن تدميره للعلاقات الإيجابية التي كانت تربط بين الشعب وجيشه، ووضع الجيش في حرب مفتوحة مع جزء من الشعب المصري من أجل بقائه على كرسي مغتصب.