مقالات مختارة

أيها «الكُفر» تحدث كي أراك

محمد المزيني
1300x600
1300x600
تاريخ «الكُفر» عريق عراقة الإنسان، وارتباطه به حدد علاقته بالكون والحياة، وتمظهرت إشكالاته مع نفسه بناء على رؤية مسكونة بالخوف، حتى ارتمى في أحضان المردة والشياطين من الجن والإنس، الذين اتسعت أطماعهم إلى أقاصي الأرض.

ملحمة جلجامش أو أسطورة جلجامش السومرية تصور هذا المعنى بجلاء، وكيف يتخلّق الملوك والأباطرة بأشكال «آلهة» متخيلة، هنا يكمن الرمز الذي لا يزال حيا يترعرع في أفكارنا من دون أن ندري، ونحن نُلبس الأشخاص صورة «إلهية» لهم تأثير ساحر في بسطاء الناس، وسيوفهم التي كان يحارب بها جلجامش أعداءه مع مفارقة نهاية الأسطورة التي جعلت منه حارسا للشعوب وأمينا على مقدراتها، بينما آلهة اليوم أصبحوا بأدواتهم ذات المضاء الأبلغ من السيوف يؤججون داخلنا صراعات لا تنتهي بين طبيعتين إلهية وبشرية.

تجلت هذه الحروب ذات القطبين في أوضح صورها بطرق ضيقة ومهينة لكرامة الإنسان في كل الحروب الدينية غير المتسامحة التي تنزع إلى معيار واحد تتحقق معادلة الانتصار المطلق المتضمنة في جملة مكرسة لا تقبل التأويل «إما أن تكون معي أو ضدي»، ولكي تحقق هذه الجملة أو العقيدة أهدافها تلبس حلة العقيدة الدينية بتأويلاتها البشرية المحضة، وكلما أوغلت هذه العقيدة بالتمكن من العقول والأرواح بدت فعاليتها قاسية وبشعة، وكمثال دونه التاريخ بأحبار من دم ما وقع في أوروبا من صراعات مذهبية بمثل ما شهدته في القرن الـ17 ميلادي من صراعات طاحنة دامت 30 سنة تحت مظلة دينية يحمل ألويتها الكاثوليك والبروتستانت، كل جيش «مدجن» بعقيدة تتضمن ذريعة القضاء على الكفر والزندقة، حتى أفنت البشر وأفشت الفقر والمجاعة، ونحن في عالمنا الإسلامي لم تسقط من ذاكرتنا بعد ما فعله فرديناند والملكة إيزابيلا يوم دخلا غرناطة منتصرين من بطش وجور للمسلمين واليهود على حد سواء، نصبت لهم المحارق حتى أجلوا منها عدا من اعتنق منهم الكاثوليكية.

تجلى جموح عقيدة القتل والتشفي في أقصى صورة وأشدها فداحة لكل المخالفين من ذات الدين الواحد، إذ عانى عالمنا الإسلامي من ويلاتها ردحا من الزمن، ذلك المنسوب إلى عصوره «الظلامية» التي لا نزال نراها تضرب رواقها حتى اليوم على عقولنا. لم نتعلم حقيقة الإسلام الإلهي الذي جاء به الوحي وأنزل على نبيه الأمين محمد صلى الله عليه وسلم كان دينا واحدا متسامحا مع كل الأديان، اتصفت به الأخلاق المجسدة واقعيا بين المسلمين في كل أصقاع الأرض، فكانوا مثالا يحتذى في رقي التعامل وحسن المنطق.

اليوم كما قلت نعيش عصورنا «الظلامية» بلا منازع، لا يشاركنا فيها أحد، حتى تجاوزتنا الأمم المتحضرة بقرون، وأمم أخرى بدأت تستوعب دروس التاريخ وتكتشف أن الدين الممذهب ما هو إلا آلة قتل حادة وحارقة وناسفة ومدمرة.

في حالنا البائسة -لا أتحدث هنا عن دولة أو نظام بعينه- كنا أمة ينظر إليها على أنها تجسد قمة التحضر وتعتلي سنام التقدم، وإذا بها اليوم تتدحرج إلى قاع الفرقة والتشتت تحت وطأة مفاهيم دينية خاطئة، استحلت خريطتها المذاهب والفرق فأصبحنا لا نرانا إلا من نافذتها، ولكي أصف نفسي داخل هوية مذهبية يجب أن يمثل انتمائي أقصى درجات التطرف من خلال رفض الآخر، وتعليقه بمشجب العداوة والرفض، فيما لو اختلفت وتبرأت من لغة الخطاب التكفيري الذي يسكننا وصحت بـ«ملء فِي» أنني لست مسؤولا عن أفكار الناس وأقوالهم قدر اهتمامي بأفعالهم وأخلاقهم تجاه الإنسان والكون، فسيحفر اسمي بلون أسود كريه بعبارة من العبارات السمجة المتداولة (منافق، علماني) يجمعها قولهم «كافر»، بينما دعاة الكراهية والتقسيم المذهبي ومحرضو القتل والتفجير، أحباب الله -وإن لم يقولوها صراحة- فيكفي أنهم يجلُّون ويحترمون ويقدرون، وأن لحومهم مسمومة، لا يكرههم إلا منافق وعلماني.

أستطيع القول بثقة تامة إن ثمة مذهبا ثالثا يقبع خلف كل هذه المذاهب، هو مذهب شيطاني مخاتل وغادر يسمى «التكفير»، لقد اختطف عرّابو هذه المذاهب ألوية الحرب بأساليب كهنوتية، وتحدثوا باسم الإله، لا يأتيهم الباطل بين أيديهم أو من خلفهم، ثم قسم الناس بينهم إلى تبع ومستقلين رافضين الدخول في حرمهم الذي خطوه على مقاس غواياتهم، ثم حركوا دهماء الناس للتشكيك بهم وتكفيرهم، فما إن تصاعدت وتيرة هذا التأليب والتجييش حتى تفشت بيننا تلك الأورام الخبيثة التي لا يمكن أن تشفى منها إلا باستئصالها، وهذا ما يفسر لنا ظاهريا كل إحداثيات الإرهاب الممذهب المتفشي بيننا، لم تسلم منها أجزاء من الأمة كنا نراها قبلا تملصت من أذرع المذهبيات، وأصبحت تدار وفق قوانين عادلة مؤسسة على دساتير إنسانية واضحة، وإذا بها تجر إلى مستنقعها ويتألب الناس وفق أهواء مذهب التكفير.

هنا بدأنا ننفصل عن مجرة الأمم المتقدمة ذات الدساتير العادلة، نحن خرجنا من الأسطورة لنجسدها تماما حتى أصبحنا أمة «زومبية» كسولة خاملة منومة مغناطيسيا تتحرك بأدوات خفية ذات أطماع دونية، تتآكل من الداخل أو بالأحرى ينهش بعضها بعضا. 

باختصار لن نخرج من هذا كله حتى نجمع كل شتات هذه المذاهب التكفيرية (طقوسها أعرافها مبادئها)، ونشعل بها النار كمن يحرق تعويذة خبيثة، ونتصافح كبشر طبيعيين لهم الحق بممارسة كل شعائرهم باختيارهم لا بتوجيه كهنوتي وتحت قاعدة دستورية جديدة «مسيجة» بالقوانين العادلة التي نصت عليها الأديان المتسامحة، المشتقة من صفة الله العادل.
0
التعليقات (0)