حين أسست سلطة يوليو 1952 في مصر التليفزيون الرسمي منتصف الستينات وبنت له مبنى ضخما "ماسبيرو" كانت تتحرك بدافع الهيمنة التامة على الإعلام والسيطرة على عقول الجماهير، وبالتالي أنشأت قناتين هما القناة الأولى وهي لعامة الشعب والقناة الثانية وكانت للنخبة والأفندية إلى حد كبير، ذلك أنها كانت تبث أفلاما ومسلسلات أجنبية إلى جانب ما تبثه من مواد إعلامية باللغة العربية، ونجحت سلطة يوليو 52 في الهيمنة الفعلية على وسائل الإعلام، وألغت تماما الصحف والإذاعات الخاصة، وتمكنت بالتالي من الهيمنة والسيطرة على عقول الجماهير، حتى أنها نجحت في تحويل الهزيمة العسكرية إلى نصر أو مجرد نكسة في العام 1967، وكان المذيع الأشهر في ذلك الوقت أحمد سعيد يشنف آذان المصريين يوميا (أثناء حرب 1967) بخبر عن تقدم قواتنا إلى داخل العمق الإسرائيلي وتحطيم طائرات العدو، بينما كانت قوات العدو تتقدم في عمق الأراضي المصرية وصولا إلى السويس وبورسعيد والإسماعيلية، بعد تدمير أسطول الطيران المصري على الأرض.
رغم مرور 65 عاما على انقلاب يوليو 1952 حرص عسكر يوليو 2013 على استنساخ التجربة، لأن الفكرة الحاكمة واحدة وهي الهيمنة على الإعلام وعلى عقول الجماهير، ولم يقنع السيسي بوجود عشرات القنوات الفضائية الحكومية والخاصة التي مهدت له ودعمت حكمه، ورسمت له صورة البطل المنقذ، ولكنه عمد إلى تنفيذ رؤيته الخاصة في صناعة أذرع إعلامية على عينه، وكان أحدث مولود لها أمس تعيين المتحدث العسكري أحمد سمير رئيسا لقناة العاصمة (بعد خروج شكلي من الخدمة العسكرية) لينضم إلى شركة شيري ميديا لصاحبها رجل الأعمال إيهاب طلعت، التي استحوذت على قناة العاصمة، والتي قد تنضم لاحقا إلى الذراع الطولى التي تم تدشينها أمس الأول وهي قناة دي إم سي التي ستتحول إلى مجموعة قنوات إخبارية وترفيهية ورياضية وفنية وأسرية الخ، وهذه المجموعة ( دي إم سي) هي ملكية صريحة للمخابرات الحربية، وهذا أمر معلوم للجميع في مصر، ويشار إليها في الوسط الإعلامي بقناة المخابرات، وهذه القناة أو المجموعة التي ستتفرع عنها ستكون بمثابة ماسبيرو جديد يحل محل ماسبيرو القديم بقنواته العتيقة التي لم تعد قادرة على مواكبة العصر وخدمة النظام بالطريقة التي ترضيه تماما، كما أن ماسبيرو الجديد سيسعى لوراثة أصول ماسبيرو القديم سواء العقارية أو الإعلامية والفنية الخ، ولذا فإن حالة من الهلع الحقيقي تنتاب الآن الإعلاميين وجموع العاملين في ماسبيرو والذين يتجاوز عددهم الأربعين ألفا، وهم جيش جرار تضخم عبر سنوات الفساد العسكري السابقة، واصبح عبئا كبيرا على ميزانية الدولة المهترئة بالأساس والتي تشهد عجوزات ضخمة تتطلب اقتراضا من الداخل والخارج لسدها، ويكفي أن نعلم أن الديون والالتزامات المستحقة على ماسبيرو تتجاوز 25 مليار جنيه مصري، وتبلغ تكاليف الرواتب شهريا ما يقارب 300 مليون جنيه أي 3 مليار وستمائة مليون جنيه سنويا، ناهيك عن تكاليف التشغيل الأخرى التي لا يقابلها أي دخل حقيقي بعد تراجع عوائد الإعلانات وتراجع عوائد بيع مسلسلات وأفلام التليفزيون الخ.
يمثل ماسبيرو الجديد ( دي إم سي) خطرا حقيقيا على مهنة الإعلام في مصر ذلك أنه يمرر لأول مرة فكرة أن تكون المخابرات الحربية صاحبة قنوات وإذاعات وصحف، ما يفتح الباب لهيمنتها الكاملة على كامل المنظومة الإعلامية، وهو أمر يجري تدريجيا بالفعل، وما عمليات الدمج والشراء للشركات الإعلامية والقنوات خلال الفترة الماضية إلا جزءا من هذا السياق، حتى وإن تخفت خلف أسماء مدنية مثل رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة أو ضباط مخابرات سابقين أو حاليين مثل ياسر سليم، أو طارق إسماعيل الواجهة المدنية لقنوات دي إم سي، كما أنه يمثل خطرا آخرا لكونه ( أي ماسبيرو الجديد) لن يكون معبرا حقيقيا عن هموم الشعب بل عن أولويات الجهة المالكة له، وهي المخابرات الحربية وبقية الأجهزة الأمنية ما يعني أنه سيسعى لتسويق جرائمها بحق الشعب مستخدما أفضل التقنيات وأمهر الإعلاميين ( المنافقين) الجاهزين دوما لبيع أنفسهم لمن يدفع اكثر.
خطورة ماسبيرو الجديد تتواكب مع مخاطر أخرى تعانيها منظومة الإعلام المصري وحرياته، حيث يمكن وصف العام 2016 بأنه عام الانقلاب الثاني للسيسي على شركائه –بالذات - في هذه المنظومة الإعلامية، وإذا كنا جميعا نذكر مقولة السيسي الشهيرة يوم 18 أغسطس 2013 أن الأسد لا يأكل أبناءه، فإن ما حدث خلال العام 2016 يضرب هذه المقولة في صميمها، فقد أكلت سلطة الانقلاب أبناءها الإعلاميين الذين كانوا ركنا ركينا منها، والذين مهدوا لها، ودعموها منذ أيامها الأولى، وسوقوا جرائمها، وضللوا الشعب بأوهامها وفناكيشها، ومع ذلك لم يسلموا من أذاها الذي طال الجميع وكانوا يظنون أنهم بمنأى عنه.
لقد رصد أحدث تقرير سنوي للمرصد العربي لحرية الإعلام عن العام 2016 مظاهر ذلك الانقلاب السيساوي على رجاله في الوسط الإعلامي والذين كان أحدثهم الإعلامي إبراهيم عيسى الذي اختصه السيسي بلقاءات تلفزيونية وباصطحابه معه في مؤتمر الشباب في شرم الشيخ، ومن قبل عيسى تطايرت رؤوس أخرى مثل توفيق عكاشة الذي كان يقدم نفسه باعتباره الأب الروحي ومفجر 30 يونيو، وعمرو الليثي، ورانيا بدوي، ومن قبلهما محمود سعد ويسري فودة، وباسم يوسف، كما منعت مقالات كتاب كبار من رجال السيسي مثل أسامة الغزالي حرب، وسليمان الحكيم، وسيد حجاب ( كاتب ديباجة دستور السيسي) ونوال السعداوي وعمار علي حسن، وأحمد النجار الخ.
لقد حرض الكثير من هؤلاء الإعلاميين سلطة السيسي للضرب بيد من حديد، وإراقة دماء المصريين من أجل بقائها، كما حرضوا على زملائهم الإعلاميين الأحرار، وقام بعضهم بتسليم زملاء على الهواء، ظنا منهم أن ذلك يقربهم زلفى للسيسي، لكنه نسوا أو تناسوا خبرة التاريخ " أكلت يوم أكل الثور الأبيض" ولعل بعضهم بدأ يستفيق أخيرا خاصة بعد الإطاحة برأس إبراهيم عيسى، ووجدنا حالة" ولولة" في برامج بعضهم عكست خوفهم من تكرر الأمر معهم، وعلى الأغلب فإنه سيتكرر بالفعل، وسيكون عام 2017 هو عام التخلص ممن تبقى منهم، ورغم حزننا لما آلت إليه حرية الصحافة، وأوضاع الصحفيين والإعلاميين في مصر تحت هذه السلطة الانقلابية، فإن ما فعله نفر قليل من أكابر المنافقين الإعلاميين قد أساء للمهنة كثيرا، وحرمهم من أي تعاطف معهم، والفرصة باقية الآن لمن تماهوا من قبل مع هذا الانقلاب أن يعلنوا توبتهم عن تلك الخطيئة، ويصححوا خطأهم بالانحياز للشعب ولثورته على الظلم، وذلك قبل الغرغرة.