في الوقت الذي كان فيه المغاربة ينتظرون من رئيس الحكومة المكلف السيد عبد الإله بنكيران أن يطلق العنان للسانه بحديث جدي يعري كواليس المفاوضات التي دخلها منذ تكليفه بتشكيل الحكومة قبل أكثر من ثلاثة أشهر كاملة، لم يجد الأخير غير الخروج ببيان خط بليل يعلن فيه أن الكلام انتهى مع رئيسي حزبي التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية عزيز أخنوش ومحند العنصر وهما حليفاه السابقان في الحكومة المنتهية ولايتها.
قبلها بأيام استشاط بنكيران غضبا وهو يشتكي عبد العزيز أفتاتي إلى أعضاء حزبه بدعوى نعته السيد أخنوش بلفظ "الشناق" واعتبره عكس ذلك "رجلا معقولا". أفتاتي لم يفعل غير تسمية الأشياء بمسمياتها استلهاما منه لحكاية بنكيران عن رجل كان يقود جمله إلى السوق لبيعه فالتقى رجلا آخر سأله عن وجهته وأخضع جمله لاختبارات قعود وقيام قبل أن يلتفت لصاحبه مستفسرا: بكم سنبيع الجمل إذن؟
المغاربة يسمون هؤلاء بـ"الشناقة . وكان بنكيران يلمز في قصته إلى أخنوش دون أن يتملك شجاعة التسمية. أفتاتي سمى أخنوش بـ"الشناق" ترجمة لحكاية رئيسه في الحزب ليس إلا. والوطن عند بنكيران مجرد جمل للبيع في الأسواق.
هذه المزاجية التي وصلت حد التهديد باتخاذ أقسى الإجراءات ضد افتاتي بل التهديد بالانسحاب من الحزب بطريقة غير مرضية هي التي تجعل مصداقية السيد بنكيران موضع تساؤل وتعطي الفرصة للتشكيك في كونه واحدة من عقبات إحداث انفراجة في رحلة تشكيل الحكومة المستعصية. ففي الوقت الذي كانت الطريق "معبدة" أمامه لتشكيل حكومة تجمعه بأحزاب "الكتلة الديمقراطية" السابقة المكونة من الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، ارتأى الرجل تأخير بدء المفاوضات حتى يتم تنصيب أخنوش على رأس الأحرار في خطأ فادح لتدبير المفاوضات يدفع ثمنه حتى اليوم. وكان تساهله كرئيس للحكومة في إقرار قوانين انتخابية تمكن من إفراز أغلبية حقيقية ومعبرة عن التوجه العام للناخبين سببا رئيسيا فيما تشهده الساحة الحزبية اليوم وكأنى به يتساهل طوال المباراة ويحاول تحقيق الضربة القاضية في الوقت الميت خارج ما تقره القوانين.
ولعل ما رشح عن المفاوضات من بلاغات وبلاغات مضادة تؤكد بالملموس أن السيد عبد الإله بنكيران، الذي طالما انتقد طريقة تدبير جماعة الإخوان المسلمين لفترة حكمها لمصر، يكرر الأخطاء ذاتها مع الفارق بين التجربتين. فإصرار السيد بنكيران على التصرف مع بقية الأحزاب، مهما صغر حجمها، بنوع من التعالي وكأنه حائز على الأغلبية المطلقة يفرز بالطبيعة مقاومة وتكتلات من الأحزاب ومن يحركها لإعادة التوازن على أساس سياسة الواقع المبنية على أوزان القوة لا الحصص العددية المحصل عليها.
وكان الخطاب الملكي بمناسبة تخليد ذكرى المسيرة الخضراء واضحا في التزام الملك بالسهر على تشكيل الحكومة وفق معايير ومنهجية صارمة حددها في ألا يصير الأمر كأنه تقسيم لغنيمة انتخابية بل تكوينا لحكومة فعالة ومنسجمة تتكون من كفاءات مؤهلة باختصاصات قطاعية مضبوطة. ولعل في استحضار تعبيرات من قبيل "الشرعية" و"الانقلاب" على نتائج السابع من اكتوبر مقدمات قد لا تكون واعية لاستلهام نموذج كارثي أوصل الوضع بمصر إلى نقطة "اللاعودة" أو يكاد. مصطفى الرميد، وزير العدل في الحكومة السابقة، الحاضر في القصر الملكي يوم تعيين بنكيران صام عن الحديث عن سبب تواجده هناك واستذكر عكس ذلك اسم بنعرفة ليعلن أنه لن يكون بنعرفة العدالة والتنمية في مواجهة بنكيران.
يحق لحزب العدالة والتنمية السعي ما استطاع لتشكيل الأغلبية التي يراها مناسبة ومتجانسة مع البرنامج الحكومي الذي يسعى لتحقيقه على أرض الواقع وهو بالمناسبة الغائب الأكبر عن تدبير المفاوضات. وفي المقابل، للأحزاب أن تسائل رئيس الحكومة المعين عن طبيعة الائتلافات واقتراح البدائل للنقاش. أما تحويل الانضمام للأغلبية الحكومية إلى صيغة سؤال وجواب بالنفي أو الإيجاب فقفز على الحقائق ومجرد تأجيل للأزمات. هكذا يبدو بنكيران غير باحث عن حلفاء بل عن مريدين، وتعامله بهذا الشكل يحول الأحزاب المغربية إلى مجرد تكملة عدد ليس إلا، وهو بذلك يزيد في إضعافها ويكرس ما يراه "عدم استقلالية" وتبعية لجهات أخرى. وبالرغم من كل البلاغات التي صدرت والتصريحات التي استقتها الصحافة على باب بيت رئيس الحكومة المكلف الذي حوله لمقر لتدبير التفاوض في سابقة لم نعهدها في المغرب، فقد سادت الضبابية وانتصرت الكولسة وشحت المعلومة الموثوقة دون احترام لحق الناخبين في الاطلاع على أسرار المفاوضات بل وصل الأمر إلى استخدام تلك الأسرار كورقة تهديد في وجه الأحزاب (حالة الاتحاد الاشتراكي). ولعل في عدم الإشراك الحقيقي للمواطنين في أمر تشكيل حكومتهم انتقاصا من درجة المواطنة ودفعا لتناسل الإشاعات والتحليلات وقراءة الطالع والتنجيم. في المغرب، طريقان لا ثالث لهما: إما البناء على ما تحقق من ممارسة سياسية وانتخابية تحترم النتائج المحصل عليها وتبنى على التعاقد السياسي، وإن كان مكبلا للانتقال الديمقراطي الحقيقي فإنه محفز على السير إليه بثبات، أو العودة إلى ممارسات الماضي السلطوية المبنية على الصراع ومحاولات التحجيم والإقصاء بما لها من كلفة سياسية واجتماعية كبيرة قد لا يمكن تحملها.
الفشل في تشكيل الحكومة معناه رسالة سلبية موجهة للقلة القليلة المشاركة في الاقتراع بما سيدفعهم إلى ضم أصواتهم للمقاطعين المشككين أصلا في جدوى العملية الانتخابية، وهو ما قد يهدد بانفجار اجتماعي لن تنفع معه حكومة أقلية أو ائتلاف موسعا كان أو مصغرا أو حكومة وحدة وطنية باسم المصلحة العليا للوطن. ليس المغرب اليوم في حاجة إلى بيان ينهي الكلام بل إلى صرخة مدوية تفضح المستور.
فيلم الصرخة – 1991، للمخرج محمد النجار.
عمر، أصم أبكم تساعده الطبيبة الباحثة تيسير على الولوج إلى معهد الصم والبكم لاستغلاله في بحثها لنيل الدكتوراه التي تأخرت في إتمامها. ومع مرور الأيام حاولت إغواءه لكنه رفص الانصياع لنزواتها. بعد زواجه من معزوزة الطامعة في ما يدخره من أموال تتفق الأخيرة مع صديقتها فكرية، الحامل من علاقة غير شرعية، على اتهامه باغتصابها.
في المحكمة يطلب عمر أن تترجم تيسير حركاته لهيئة المحكمة لكنها خانت ثقته وهو يسرد تفاصيل قصة إغوائها له دليل براءته من الاغتصاب. أصدقاء عمر من الصم والبكم ثاروا على مجريات المحاكمة بعد أن اكتشفوا كذب تيسير.
القاضي: عاوزين إيه دول؟
تيسير: بكل أسف يا افندم عاوزيني أغير أقوالي وأقول حاجات تبرأ عمر.
القاضي: قولي لهم يسكتوا وإلا أنا حآمر بإخراجهم من الجلسة فورا.
تشير لهم بالامتثال لكنهم ثاروا في وجهها: كذااابة..
تيسير: عاوزيني أكذب يا أفندم. أنا خايفة بعد الجلسة ما تخلص يعملوا فيا حاجة.
القاضي: أمرنا بإخراج الجمهور بره الجلسة فورا.
فالتفت الدائرة على عمر حيث لا أحد بالجلسة غيره وتيسير وفوقية ومعزوزة ومحامين لا يفقهون في لغة الصم والبكم إشارة، فصار وحيدا في مواجهة "الأعداء".
في نهاية الفيلم كان انتقام عمر قاسيا حيث أخضع النسوة الثلاث لذبذبات عالية أفقدتهن حاسة السمع ليصبحن أعضاء جددا في عالم "أصم".
في بيانه المعروف بـ"انتهى الكلام" استخلص بنكيران "أنه (أي أخنوش) في وضع لا يملك معه أن يجيبيني"، فهل يوجد رئيس الحكومة المكلف في وضع يملك معه أن يجيب الشعب على تساؤلاته ويطلعه على الحقائق بعيدا عن لغة المقفع وبيانات آخر الليل؟