ليس من الضروري في شيء، ولا من المفروض، أن يكون المرء عالما لغويا فذا أو متضلعا في بنيات اللغة ووظائفها حتى يتسنى له التسليم بأن عصر العولمة والثورة التكنولوجية وانفتاح الأسواق والاقتصادات وتطور الشبكات الإلكترونية وتزايد مظاهر البث التلفزي العابر للحدود وغيرها، قد وضعوا الثقافة واللغة في المحك ولربما أكثر من أي وقت مضى.
والواقع أن هيمنة بعض من لغات العالم على عمليات التبادل الاقتصادي والإنتاج المعرفي والتكنولوجي وتنقل التيارات الرمزية على نطاق شبه كوني واجتماعات المنظمات الدولية وملتقيات البحث والفكر وما سواها، هذه الهيمنة لم تعد فقط مكمن إجماع عام حول حقيقتها المؤكدة، بل أضحت تقدم في كونها "تهديدا" للحق في التباين والاختلاف، و"خطرا" على "هويات" الأفراد والجماعات بهذه المنطقة من العالم أو تلك.
وسواء كانت اللغة هنا وسيلة اتصال وتواصل وأداة تبليغ وتبادل للمعلومات والمعارف، أم كانت تعبيرا عن ثقافة، عن هوية أو عن علاقات قوة، فإنها أصبحت في الحالتين معا تسائل ذات "الحق"، وتستفهم في وعن مستقبل "الهويات" إياها على ضوئه وتحت قوة محكه.
وعلى الرغم من كون التمييز أعلاه يبقى إجرائيا خالصا، باعتبار اللغة أداة اتصال وتواصل ومكمن تمثلات رمزية للأفراد والجماعات، فإن القائم راهنا أن الجانب الأول من المعادلة هو الموضع أساسا في الميزان، بحكم عولمة الاقتصادات وانفجار الشبكات المعلوماتية وتعدد مصادر الأخبار والمعطيات وما سوى ذلك.
ليس من الغرابة في شيء إذن، بناء على ما سبق، أن تضحى اللغة الإنجليزية، وبكل المقاييس، لغة العولمة القائمة ولغة التيارات الرمزية المقتنية لذات الشبكات، بل قل لغة "الثقافة" السائدة شكلا كما في الجوهر.
لا يتأتى "تفوق" اللغة الإنجليزية فيما يبدو، من تفوق ما في بنيتها الداخلية، أو توفرها على سمات مميزة لها عن غيرها، ولكنه تأتى لها كون الدولة الثاوية خلفها (الولايات المتحدة الأمريكية) انفردت بسلطان القوة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية، وسلطان البحث العلمي والتطوير التكنولوجي وغيرها.
بالتالي، "فعولمة" اللغة الإنجليزية المتزايدة، لدرجة أضحت معها لغة التخاطب العالمي ولغة المبادلات الكونية، إنما هو رديف منطقي وإلى حد بعيد لعولمة في الاقتصاد والمال والأعمال والبحث والتكنولوجيا تدفع بها الولايات المتحدة بالمنظمات الدولية، كما بالمنظمات الجهوية، كما في علاقاتها مع الدول والشركات.
تقول منظمة اليونسكو بهذا الصدد: "إنه أضحى من الضروري أخذ المشكل اللغوي في الاعتبار، فيما يتعلق بتكوين التجمعات الاقتصادية الجهوية الكبرى، كالنافطا والميركوزير، والآزيان، والاتحاد الأوروبي وغيرها. إن فكرة البنية اللغوية كحجر أساس للبناءات الجهوية بغرض تقوية التضامنات والحؤول دون الصراعات، مهمة للغاية، تماما كما هو الشأن بالنسبة لمسألة منظومات بنى النقل والطاقة والاتصالات، التي غدت ذات أهمية كبرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي".
ما من شك إذن أن تزايد مد العولمة اللغوية تزامن وتزايد النزعة بجهة التكتل الجهوي، والذي يعتبر في الآن ذاته رافعة لذات العولمة ووقوفا في وجه طغيانها على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والأمني وما سواها. وهو أمر لا يمكن تلمس مظاهره الكبرى على مستوى السياسات اللغوية المعتمدة من لدن كل تجمع فحسب، بل وأيضا على مستويات أخرى تتجاوز البعد الفضائي للمسألة أو طابعها الجغرافي الخالص، لتطال البعد الجيوستراتيجي والثقافي كما نلاحظه في حالتي الفرنكفونية والإسبانوفونية والأنجلوفونية وغيرها.
ولئن غدت المسألة اللغوية، في عصر العولمة وانفجار التيارات الرمزية على المستوى الكوني، رهانا كبيرا في العلاقات بين دول العالم، فليس الباعث في ذلك كونها أداة اتصال وتواصل ووسيلة نقل للمعارف والمضامين، ولكن أيضا لأنها تجر من خلفها رهانات ثقافية وهوياتية ضخمة لا تختزل لحد الساعة إلا في مظاهر ثانوية غير ذات قيمة كبرى تذكر.
والسر في ذلك كامن بالأساس في أن "اللغة لا تصلح فقط لتمرير المعلومات المصاغة خارجها، ولكنها تمارس آثارا على بنية المعارف المصاغة داخل نشاطات ذهنية، ووفق تداخل اجتماعي بين مختلف المتدخلين...فليست الكلمات في حد ذاتها التي تعبر وتوجه تمثلا للعالم، ولكن أيضا أنماط ترتيبنا للكلمات والجمل في الخطاب. وكذلك فإن أنماط تواصلنا وتبادلاتنا هي التي تنظم وتهيكل وتوجه علاقاتنا بالعالم وبالآخرين".
ومعنى هذا أن العولمة اللغوية المتصاعدة المد لا تضع اللغة كأداة في المحك، بل وأيضا في كونها أضحت "ملتقى حقيقيا للعلم والتقنيات، للتربية والثقافة والاتصال"، وهو ما سينعكس حتما على إمكانات الوصول للثقافة ونشرها وإعادة إنتاجها.
بالتالي، فالعولمة اللغوية ليست هدفا في حد ذاتها، بقدر ما هي ( بالنسبة لقطب العولمة الأوحد تحديدا) وسيلة لبلوغ أهداف محددة، وآليات مقصودة تكون اللغة بداخلها الأداة والرافعة لا العكس.
اللغة الإنجليزية من هنا إنما تعولمت لأنها أولا لغة القوة الكبرى في العالم، وثانيا لأنها أضحت في الآن ذاته لغة ذات العولمة نفسها، تفسح لها في المجالات واسعة، تفتح لها الأسواق الوطنية، ولا تتوانى في استقطاب الأفواه المستهلكة لما تنتجه معاملها وما تصممه مختبراتها.