تحوم الشكوك حول تمويل المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية ومدى ارتباطه بحكومة البحرين، نحن معتادون على مشاركة متحدثين من أرقى المستويات في حوار المنامة الذي ينظمه في البحرين مركز أبحاث بريطاني اسمه المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية.
في السنة الماضية كان الضيف الرئيسي في المؤتمر هو المشير عبد الفتاح السيسي رئيس مصر. أما هذا الأسبوع فيلقي الكلمة الرئيسية فيه وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، والخارج لتوه من خلافه مع رئيسة الوزراء تيريزا ماي حول الموقف من المملكة العربية السعودية.
لقد أصبح حوار المنامة حدثا سنويا بارزا في الشرق الأوسط يجتمع فيه لفيف من الدبلوماسيين ورجال الأعمار والمتنفذين وأصحاب القرار ليناقشوا القضايا ذات العلاقة بمصالحهم الإستراتيجية.
المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية واحد من أربعة مراكز أبحاث بريطانية رئيسية متخصصة في الشؤون الخارجية. ولد المعهد أثناء الحرب الباردة في عام 1958، وهو الآن يدعي أنه "المصدر الأول للمعلومات الموضوعية الصحيحة حول القضايا الإستراتيجية الدولية التي تهم السياسيين والدبلوماسيين ومحللي الشؤون الخارجية، والمؤسسات التجارية الدولية، والاقتصاديين والعسكريين والمعلقين على الشؤون الدفاعية، والصحفيين والأكاديميين والمهتمين من عامة الناس".
ويؤكد المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بأنه لا يدين بالولاء لأي حكومة أو أي منظمة سياسية أو غير سياسية." لا يوجد من بين من تحدثت معهم من يجادل في أن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية ينتج أبحاثاً ودراسات من الدرجة الأولى.
ولكن هل هو فعلا مستقل كما يزعم؟
ما لا نعرفه عن المعهد الدولي للدراسات
يثير تحقيق نشره في وقت مبكر من هذا الأسبوع روب إيفانز، صحفي التحقيقات المحترم في صحيفة الغارديان، شكوكا حول هذا ادعاء المعهد بأنه مستقل. يقول إيفانز، الذي يعمل بالشراكة مع منظمة مؤيدة للديمقراطية في البحرين اسمها "بحرين واتش"، إنه رأي وثائق مسربة تثبت أن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية قد "تلقى سراً خمسة وعشرين مليون جنيه إسترليني من العائلة الحاكمة في البحرين"، أي ما يعادل 5,31 مليون دولار. وتقول صحيفة الغارديان إن هذا المبلغ يشكل ربع الدخل الإجمالي للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية.
وترى منظمة "بحرين واتش" أن تمويلاً بهذا الحجم يوجد بالضرورة تضارباً في المصالح. وتقول المنظمة إنه "يتوجب على أي مؤسسة أن تتوجس من تلقي مثل هذه الكمية الكبيرة من المال من جهة متبرعة واحدة."
قام موقع "ميدل إيست آي" خلال الأسابيع القليلة الماضية بتحقيق خاص به، وبشكل مستقل عن صحيفة الغارديان ومنظمة "بحرين واتش"، حول مصادر تمويل المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية. ولقد وصلنا إلى الاستنتاج بأن التمويل الذي يحصل عليه المعهد من البحرين قد يكون في واقع الأمر أكبر بكثير من المبلغ الذي أوردته صحيفة الغارديان.
دعونا نلقي نظرة على آخر ما هو متاح من حسابات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، وهي حسابات العام الذي ينتهي في الثلاثين من سبتمبر 2015. بلغ إجمالي دخل المعهد خلال تلك الفترة ستة عشر مليوناً وثمانمائة وتسعة وستين ألف جنيه إسترليني (16،869،000 جنيه). من هذا المبلغ هناك ثلاثة ملايين وخمسمائة وثمانية وأربعون ألف جنيه إسترليني (3،548،000 جنيه) ترتبط بحوار المنامة الذي ينعقد نهاية هذا الأسبوع بالإضافة إلى بعض "ندوات أمنية إقليمية".
تقول صحيفة الغارديان إن هذا المبلغ مقدم من العائلة الحاكمة في البحرين. إلا أن موقع "ميدل إيست آي" حصل على معلومات تفيد بأن النقد الخاص بحوار المنامة لا يشتمل على كل الأموال التي حصل عليها المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية من البحرين. ولقد جرى تنبيهنا إلى أن مبلغاً غامضاً من المال قدره مليونان ومائة وثمانية وستون ألف جنيه (2،168،000 جنيه) كان قد دون في حسابات السنة المالية لعام 2015 على أنه "تبرعات" طوعية وردت إلى المعهد.
في العادة يدون المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بالتفصيل جل ما يرده من دخل ويقسمه إلى مبالغ صغيرة جداً ومحددة المقادير، ومن ذلك على سبيل المثال مبلغ ثمانية آلاف جنيه إسترليني مدونة على أنها وردت من البحرية الأمريكية كمساهمة في تمويل دراسة حول "النظرية الإيرانية بشأن تطوير الصواريخ البالستية".
إلا أن مبلغ المليونين ومائة وثمانية وستين ألف جنيه (2،168،000 جنيه) استثني من ذلك ولم يرد مجزأً ولم يفصل فيه على الإطلاق، وكل ما قيل لنا هو أن هذا المبلغ جاء من مصدر واحد، وأنه عبارة عن تبرع دفعته وزارة الخارجية في البحرين بالدينار البحريني.
هناك بند آخر غامض في حسابات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية يخص ما يسمى "نشاط بحثي غير مقيد"، وقيمته مليون وأربعمائة وأربعة وثمانين ألف جنيه إسترليني (1،484،000 جنيه). من أين جاء هذا المبلغ؟ مرة أخرى لا يجد أي تفسير في الحسابات رغم أنها في العادة تعطي معلومات مفصلة حول كل مبلغ يرد إلى المعهد مهما كان صغيرا. بحسب المعلومات التي حصل عليها موقع "ميدل إيست آيط فإن الجزء الأكبر من هذا المبلغ جاء أيضاً من مملكة البحرين.
إذا كانت المعلومات التي حصلنا عليها من مصادرنا صحيحة، فإن ذلك يعني أن البحرين لا تقدم فقط ما يقدر بعشرين بالمائة من الدخل السنوي للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، والذي يسجل على حساب مشروع حوار البحرين. بل إن ما حصل عليه المعهد في عام 2015 من مملكة البحرين يقترب كثيراً من سبعة ملايين جنيه إسترليني – أي لا يبتعد كثيراً عن نصف الدخل الإجمالي للمعهد خلال تلك الفترة.
الحاجة إلى الشفافية
وجه موقع "ميدل إيست" آي يوم الأربعاء الماضي مجموعة من الأسئلة إلى إدارة المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية.
سألنا القائمين على المعهد ما إذا كانوا يؤكدون صحة ما ذكرته صحيفة الغارديان من أن العائلة الحاكمة في البحرين قد دفعت لمركز الدراسات هذا مبلغاً قدره ثلاثة ملايين وخمسمائة وثمانية وأربعون ألف جنيه إسترليني (3،548،000 جنيه).
وسألناهم ما إذا كانوا يؤكدون استلام المعهد لمبلغ قدره مليونان ومائة وثمانية وستون ألف جنيه (2،168،000 جنيه) على شكل "تبرع دخل طوعي" دفعته لهم وزارة الخارجية البحرينية.
وعلى الرغم من إلحاحنا المتكرر إلا أن الناطق باسم المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية امتنع عن الإجابة على هذه الأسئلة، وبادر بدلاً من ذلك إلى إرسال بيان مكتوب ينص على أن حسابات المعهد أعدت ورفعت إلى الجهات المعنية في امتثال تام مع المتطلبات القانونية ومع متطلبات مفوضية الهيئات الخيرية في المملكة المتحدة.
كما أشار البيان إلى أن جميع عقود المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية "تشتمل على بند يؤكد الاستقلال التام للمعهد من الناحية الفكرية والتشغيلية بوصفه منظمة دولية لا تشارك في أي شكل من أشكال الدفاع عن مصالح جهة بعينها".
كما أصر المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية على أن اتفاقية حوار المنامة "تمنح المعهد الحرية الكاملة لوضع برنامج الحوار ودعوة من يراه مناسباً من المشاركين انسجاماً مع الأولويات التي يعتبرها المعهد مهمة لتشجيع النقاش القوي حول القضايا التي تواجه المنطقة ولترتيب وتيسير الاتصالات الدبلوماسية الهامة".
من المهم في هذا المجال التأكيد على أن البحرين ليست على الإطلاق الممول الوحيد – أو حتى الممول الأكبر – للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، بل ترد إلى المعهد تبرعات من عدد من الهيئات الحكومية والخاصة، ومنها على سبيل المثال: المؤسسة البريطانية لأنظمة التقنيات الجوية والفضائية (بي إيه إي سيستمز)، وأبراج كابيتال، ومكتب وزير الدولة للتعاون الدولي في الإمارات العربية المتحدة ووزارة الدفاع في المملكة العربية السعودية.
إلا أن مشروع حوار المنامة واجه نقداً من نشطاء حقوق الإنسان البحرينيين نظرا لتركيزه على عرض صورة أحادية الجانب للسياسة في البحرين، ولقصره التركيز على القضايا التي تهم العائلات الحاكمة في الخليج، ولتجاهله أو حتى إسكاته للأصوات المعارضة في المنطقة.
مازال لدينا سؤالان يهمان الجمهور نود الحصول على إجابات لهما من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية.
أما السؤال الأول فهو: هل بإمكانك تأكيد أن مبلغ الدخل الطوعي البالغ مليونين ومائة وثمانية وستين ألف جنيه (2،168،000 جنيه) عبارة عن تبرع جاء دفعة واحدة من البحرين؟
وأما السؤال الثاني فهو: هل صحيح أن جل مبلغ المليون ونصف المليون جنيه المدون على أنه "تمويل بحث غير مقيد" ورد من نفس المصدر؟
نعتقد أن هذه الأسئلة بالغة الأهمية لأن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، مثله في ذلك مثل مراكز الأبحاث الأخرى، بحاجة إلى أن يكون شفافاً حين يتعلق الأمر بالحكومات والمنظمات الأخرى التي يتلقى منها الدعم.
حوار البحرين يضفي صفة من الوقار
لا يبتعد نظام الحكم في مملكة البحرين كثيرا عن الدكتاتورية، فهو لا يشجع على ممارسة حرية التعبير، ويضطهد مواطنيه، وبشكل خاص من ينتسبون منهم إلى الأغلبية الشيعية.
حاول ولي العهد قبل عام 2011 انتهاج مسار ليبرالي في بلاده والتوجه نحو الديمقراطية وإتاحة المجال أمام الشيعة، وكذلك السنة، للقيام على خدمة مصالحهم.
إلا أن ذلك كله توقف تماماً مع انطلاق الربيع العربي الذي وصل البحرين في شباط/فبراير من عام 2011 وتمخضت عنه انتفاضة اللؤلؤة. سارع النظام إلى قمع الانتفاضة ومنذ ذلك الوقت والملك يحكم البلاد بدعم من جارته المملكة العربية السعودية بشكل طائفي بحت.
كتبت الخبيرة في الشؤون السياسية كريستين سميت ديوان تقول: "شهدت البحرين بعد انتفاضة اللؤلؤة حملة عقابية تميزت باتساع إطارها ومشاركة قطاع واسع من الجمهور فيها. وقد نجم عن صعود المتشددين، في ظل أوضاع صعبة أفرزتها الأزمة السياسية، خلق بيئة تسمح بخطاب مناهض للشيعة وتحرض على الحراك السياسي السني".
يرى كثيرون بأنه لو كان المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية صادقاً فيما يدعيه من دعم للحوار السلمي لكان سعي إلى المساعدة في رأب كثير من الصدوع والانقسامات الطائفية في البحرين.
ما يبعث على القلق بشأن حوار المنامة وما يحيط به من نشاطات أنه يضفي صفة من الوقار على نظام تتآكل شرعيته ويزداد طغياناً يوماً بعد يوم.
وهذا ما يجعلنا نؤمن بأن من الأهمية بمكان أن يكشف المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية عن الملابسات التي تكتنف علاقاته المالية بمملكة البحرين.