كان تشكل فصائل المقاومة المعاصرة ومدى الدور الذي يمكن أن تلعبه في مقاومة العدّو مرتبطا بالفسح والشقوق التي كانت تسمح لها بها موازين القوى العالمية والإسلامية والعربية، كما ما تسمح لها بها التناقضات العربية – العربية، كما الصراع العربي- الصهيوني. وهذا يفسّر تأخُر تشكّل م.ت.ف من 1948-1964، كما يفسّر انطلاقة فتح في 1965. وأخيرا وليس آخرا ما تحوّل إلى ثورة فلسطينية بعد 1967، أو ما نشأ من وضع عربي شديد الحاجة إلى بروز المقاومة الفلسطينية ودعمها لحمل كتف في مواجهة آثار عدوان حزيران 1967 حيث احتل الكيان الصهيوني باقي القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء حتى قناة السويس.
وبالفعل لعبت فصائل المقاومة دورا استنزافيا وإشغاليا لقوات العدّو فيما كانت تندلع حرب استنزاف قويّة على الجبهة المصرية خصوصا في العام 1969. كما فتحت في وجهها جبهتا الأردن ولبنان. وقد شاركت في حرب تشرين 1973 التي حقق فيها الجيشان المصري والسوري إنجازات عسكرية لم يكن العدو يتصوّر حدوثها. وإن لم تكتمل بتحقيق نصر ميداني يصل إلى إزالة آثار العدوان على الجبهتين المصرية والسورية. ولكن كان لفصائل المقاومة دورها المقدّر في المرحلة التي تلت 1967 عربيا على خطوط التماس، كما في إطلاق عمليات مقاومة على الأرض الفلسطينية في الداخل كانت لهما أبعادهما الهامة السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع ضدّ الكيان الصهيوني.
كادت حرب 1982 التي أخرجت م.ت.ف من لبنان تؤذن بانتهاء الدور العربي في دعم فصائل المقاومة العاملة على خط التماس اللبناني بعد أن كان خطّا التماس الأردني والمصري قد أُغلِقا في 1971 و1979 على التتالي. الأمر الذي أغلق ما كان قد فُتِحَ من فُسَح وشقوق وتناقضات في موازين القوى بعد حرب حزيران/يونيو 1967 كما مرّ أعلاه.
التعويض جاء بانتقال الصراع إلى الداخل من خلال اندلاع الانتفاضة الأولى وتجدّد نشاط المقاومة في الداخل بانضمام فصيليّ حماس وحركة الجهاد إليه. وقد لعب في هذه المرحلة تغييريْن في موازين القوى تمثل أولهما إيجابيا بسقوط نظام الشاه في إيران وانتصار الثورة الإسلامية، وثانيهما بعقد المعاهدة المصرية – الإسرائيلية وخروج مصر من المواجهة العسكرية والسياسية المباشرة ضدّ العدّو.
ففي الانتفاضة الأولى لم يحدث أن تجرّأ أحد على التنكر لدور فصائل المقاومة وقيادتها عمليا للانتفاضة، وما تركته "انتفاضة الحجر" والفتيان والفتيات الصغار من أثر في الرأي العام عربيا وإعلاميا وعالميا.
صحيح أن اتفاق أوسلو وما رافقه من تنازلات بما في ذلك التخلي إلى حدّ الإدانة للكفاح المسلح من قِبَل قيادة م.ت.ف الممثلة للفصائل عدا حماس وحركة الجهاد، ثم قبولها بتغيير البنود الأساسية في ميثاق م.ت.ف، أدّى إلى انتكاسة في القضية الفلسطينية ونضال فصائل م.ت.ف ولا سيما حركة فتح التي كانت قد أطلقت الثورة الفلسطينية وقادت المقاومة من 1968 إلى 1993، إلاّ أن الكفاح المسلح لم يتوقف من خلال رفع رايته وراية هدف التحرير الكامل لكل فلسطين من قِبَل حركتي حماس والجهاد وعدد مقدّر من المستقلين الذين أسّسوا أو ساهموا في تأسيس م.ت.ف في 1964، وفي 1968.
ثم اندلعت الانتفاضة الثانية لتعود فصائل م.ت.ف وفي مقدمّهم ياسر عرفات وكتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لفتح، إلى المبادرة والنشاط الفاعل في المقاومة إلى جانب الدور المقاوِم البارز في العمل الفدائي الاستشهادي من قِبَل كل من حماس وحركة الجهاد وعدد من الفصائل الأخرى.
على أن انتخابات 2006 بعد استشهاد ياسر عرفات وتولي محمود عباس قيادة فتح وم.ت.ف كشفت انحيازا لانتخاب حماس في المجلس التشريعي. وكان انحيازا للمقاومة وغسلا للأيادي من اتفاق أوسلو. وقد نجم عن تلك الانتخابات تشكيلا للسلطة برئاسة اسماعيل هنية. مما فتح صراعا داميا بين السلطات الأمنية التابعة لفتح في قطاع غزة وكتائب عز الدين القسّام، أسفر عن تسلّم حماس القيادة السياسية والعسكرية لقطاع غزة المحرّر إذ كانت الانتفاضة الثانية وما صاحبها من مقاومة مسلحة قد فرضتا على الاحتلال أن ينسحب منه ويفك المستوطنات، وبلا قيد أو شرط. وبهذا تكون فصائل المقاومة قد حققت أهم إنجاز عملي على أرض فلسطين بتحرير قطاع غزة، وبلا قيد أو شرط.
ولقد تعزّز هذا الإنجاز الذي يجب أن يُحسّب أيضا للمقاومة تاريخيا في الانتصار على جيش الكيان الصهيوني في ثلاث حروب كبرى 2008/2009 و2012 و2014. فأصبح لدى الشعب الفلسطيني ولدى فصائل المقاومة من خلال حماس والجهاد وعدد من الفصائل الصغيرة قاعدة مقاومة عسكرية وسياسية لا تسمح لأحد بأن يتجاهلها ويتحدث عن موات فصائل المقاومة وفواتها كافة. وذلك بالرغم من التنسيق الأمني الذي فرضه محمود عباس على الضفة الغربية. وقد أجمعت فصائل م.ت.ف قبل عدّة أشهر ومن خلال المجلس المركزي بإصدار قرار بوقف التنسيق الأمني. فضلا عن أخذ الفصائل لموقف إيجابي من انتفاضة القدس التي اندلعت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر واستمرت حتى يومنا هذا. طبعا لا يكفي الموقف الإيجابي إذ المطلوب الانخراط الكلي فيها.
يجب التذكير هنا من أجل التماسك في التحليل أن إنجازات الانتفاضة الثانية ثم إنجازات القاعدة المقاومة العسكرية في قطاع غزة، كما انتصار المقاومة عام 2006 في حرب تموز/يوليو بإنزال هزيمة مدويّة في الجيش الصهيوني تمت في ظل ما حدث من تغييرات هامة في ميزان القوى العالمي. كان في مقدمها تراجع السيطرة الغربية بقيادة أمريكا على الوضع العالمي بعد أن حدث تخبط في استراتيجياتها الدولية لا سيما في عهدَي كلينتون وجورج دبليو بوش. وكان من علائم هذا التراجع فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد في عهد بيل كلينتون وفشل حربَي أفغانستان والعراق كما فشل حربَي 2006 و2008/2009 على لبنان وقطاع غزة كما الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في 2008. وقد قصمت ظهر العولمة. ثم ما صاحب كل ذلك من بروز كل من روسيا والصين كدول كبرى زعزع ما سمّي بنظام أحاديّ القطبية فضلاً عن بروز أدوار إقليمية متعاظمة لدول مثل الهند وإيران وتركيا والبرازيل وجنوبي أفريقيا.
هذا التغيير في ميزان القوى العالمي والإقليمي أخذ يغيّر في معادلة موازين القوى العالمية والإقليمية التي سادت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية واستمرت حتى انهيار المعسكر الاشتراكي. الأمر الذي راح يسمح لفصائل المقاومة الفلسطينية بأن تلعب أدوارا ربما أكثر فعالية من الأدوار التي لعبتها حتى الآن. وإن كانت ثمة عوامل ذاتية داخل فصائل المقاومة (طبعا بتفاوت) أخذت تعيق أن تنتقل بأدوارها إلى المرحلة الجديدة لموازين القوى المذكورة مضافا إليها عوامل الترهّل الذاتي التي أخذت تضرب في الكيان الصهيوني جيشا وحكومة وكنيست ومجتمعا. وهو ما تكشف عنه فشله في أربع حروب وانسحابه بلا قيد أو شرط من جنوبي لبنان وقطاع غزة فضلا عن فشله في إنهاء انتفاضة القدس المندلعة منذ أكثر من سنة. وذلك بالرغم من الدور السلبي الهائل الذي يلعبه محمود عباس وأجهزته الأمنية ضدّ الانتفاضة كما في تعطيل حركة فتح وإرباك فصائل المقاومة الأخرى عموما.
هذا الدفاع عن فصائل المقاومة ضدّ اتهامها بالموت أو بالفوات لا يعني دفاعا عن تاريخها الذي حمل الإنجازات ولكنه حمل أيضا الخط الأساسي الذي أوصل إلى اتفاق أوسلو وتداعياته اللاحقة. ولا يعني الرضى عن وضعها الحالي، بصورة عامة. طبعا دون وضعها جميعا في سلة واحدة مع مراعاة التفاوت بالتأكيد. فالدفاع هنا يهدف إلى رفض الحكم القاضي بأنها ماتت، وأصبحت من الماضي وانتهى دورها. وإنما إبقاء الباب مفتوحا أمام أدوار مقدرّة لها الآن ومستقبلا فهي ما زالت قادرة على أن تنفض عن كاهلها ما هو نائم من ارتباك، لا سيما إذا ما حدث تغيير في فتح يعيدها في الأقل إلى الدور الذي أعادها إليه ياسر عرفات في الانتفاضة الثانية بعد الانتكاسة الخطيرة التي أحدثتها اتفاقية أوسلو وما تشكّل من سلطة وأجهزة أمنية وتعهدات لأمريكا وللعدّو.
ولكن حتى لو لم يحدث هذا التغيير في حركة فتح، ولا يَبْعُد عن الصواب من يعتبره بعيد الاحتمال، إلاّ أن تطورّات الصراع الحتمي مع عدّو مصمّم على تهويد القدس ومصادرتها واقتسام المسجد الأقصى أو هدمه، ومستمر في التوسّع الاستيطاني، وفي ارتكاب الحماقات السياسية والإجرامية، سوف تؤدي إلى تصعيد الانتفاضة والمقاومة وستجد الفصائل نفسها إن لم يكن كلها فبعضها الغالب في موقع المبادرة من جديد.
هذا على مستوى الضفة الغربية والقدس أما على مستوى قطاع غزة فالفصائل عموما ولا سيما حماس والجهاد ما زالت في قلب الحرب وفي قلب مواجهة كبرى. وسيظل الإعداد العسكري في حفر الأنفاق، وتطوير السلاح، والتسلّح، والتدريب العسكري ومضاعفة العديد المقاوِم ماضيا على قدم وساق. وهذه حالة حرب تخوضها فصائل المقاومة ليل نهار.