يتكاثر المولعون ببشّار الأسد، أو أقلّه مَن «يفضّلونه على خصومه»، وفقا لتعبير يزداد شيوعا. في الأشهر القليلة الماضية انضمّ إلى هذه القائمة المنتفخة بالأسماء كلٌّ من الأمريكيّ دونالد ترامب والفرنسيّ فرانسوا فيّون. هذا إذا اقتصرنا على تعداد الكبار.
المعجبون يتزايدون في «اليمين» وفي «اليسار»، وفي سائر بقاع المعمورة. سياسيّون واقتصاديّون ورجال أعمال، ولكنْ أيضا إعلاميّون وقانونيّون ومناضلون من كلّ نوع.
يتضخّم طابور «الناجحين» والمحبّين لـ «النجاح» فيما يوالي بشّار الأسد، مصحوبا بحليفيه الكبيرين فلاديمير بوتين وعلي خامنئي، تدمير مدينة حلب وقتلها. لا يظهر صوت يتّهمه بأنّه سبب المأساة. بل لا يظهر صوت يتّهمه بأنّه «أحد» أسباب المأساة. كلّ الأصوات تقريبا مجمعة على أنّه جزء من الحلّ وجزء من المستقبل. صوت ستيفن أوبراين، أحد رسميّي الأمم المتّحدة الكبار، حين حذّر من تحوّل حلب إلى «مقبرة ضخمة»، داعيا الأعضاء في مجلس الأمن إلى حماية المدنيّين «كرمى للإنسانيّة»... كلام إنشائي جميل. الرجل إنسانيّ وأخلاقيّ بلا شكّ، لكنّ هذا موضوع آخر. أطفئوا الكهرباء. نريد أن ننام!
عوامل كثيرة يمكن عدّها في معرض تفسير هذا الحبّ المتدفّق لبشّار، المرفق بهذا الكمّ من الكراهية لـ «خصوم الأسد»، والخصومُ المقصودون ليسوا دائما «داعش» والتنظيمات التكفيريّة. إنّهم، اليوم، بشهادة الذين يموتون بلا جنازات، أو يفرّون إلى لامكان، مدينة حلب وأهلها، لا سيّما منهم أطفالها «الإرهابيّون».
عوامل الوَلَه التي توسّع المحلّلون في شرحها تمتدّ من الإعجاب الكونيّ بنموذج بوتين إلى أخطاء المعارضة السوريّة، ومن تنامي دور التكفيريّين إلى شكل من الوفاق الدوليّ القائم... لكنّ ثمّة سببا نادرا ما أشير إليه، هو أنّ الأسد، وهذا ليس مزاحا، رجل «حضاريّ»، وزوجته «حضاريّة» عاشت في بريطانيا التي درس هو نفسه فيها.
هذه اللازمة التي كان يكرّرها، في بدايات الثورة، كلّ خبر عن سوريّا، صارت، في الزمن البوتينيّ المخلوط بجرعة من ترامب، وجهة كونيّة غالبة. فحين يتحوّل رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلى معجب بالرئيس الروسيّ، فهذا معناه اقتران النجاح الذي يزيد المال بالنجاح الذي يُنقص البشر. وهو إقرار بتغلّب لون من الحداثة على لون آخر: اللون الذي انتصر حداثة السلاح والقوّة، ممّا لا تملك روسيا سواه. واللون الذي انهزم حداثة حقوق الإنسان ودولة القانون، وهو ما تملكه أمريكا إلى جانب امتلاكها فظاظة السلاح والقوّة.
الحداثة التي انتصرت، حداثة القسوة التي تُستعرض في حلب، تتخفّى بالطبع على قسوتها التي تنقلب دفاعا عن الحضارة في وجه الإرهاب. وهي طبعا تنكر افتقارها إلى الحسّ الإنسانيّ وتنكّرها للقانون فلا يتبقّى لها ما تتباهى به إلاّ... «حضاريّة» الأسد وزوجته اللذين عاشا في بريطانيا.
تشييء سوريا والسوريّين ونزع المعنى عنهم من شروط ذلك. اغتيال تاريخهم شرط آخر، خصوصا تلخيص تاريخ الشرّ في ذاك البلد بـ «داعش»، ونسيان عشرات السنين من حكم العسكر والأمن وزنازين الموت.
هذه معايير زمننا الذي يتقاسمه بوتين وترامب، الأستاذ والتلميذ النجيب. زمننا الذي يسجّل بالضربات القاضية انتصار البَله على الذكاء، والقوّة على القانون، والمافيا على الدولة، والوضاعة على النخوة، والوحشيّ الذي فينا على الإنسانيّ. الزمن الذي يسوده حكم الأسوأ بيننا والأقلّ تأهيلا، الكاكيستوقراطيّة كما سماها قدامى اليونان.
وهو، توخّيا للإنصاف، زمن يلتقي وينسجم مع تراث حداثيّ محلّيّ لم يجد ما يردّ به على الاستبداد الأكثريّ، إلاّ الانضمام أفواجا إلى أحزاب توتاليتاريّة، قوميّة وبعثيّة وشيوعيّة، وإلى مدارس حربيّة وفروع مخابرات، وإلى أفكار خلاصيّة لا تعد إلاّ باستبداد أفعل وقسوة أنظم وأشدّ، ودائما مع مبايعة أرباب صغار، بعضهم «فلاسفة» مَعاتِيه وبعضهم عسكريّون مهزومون في حروبهم كلّها، يراد إحلالهم بالقسر محلّ زعيم الأكثريّة الواحد.
أمّا مدينة كحلب فلا محلّ لها في عالم كهذا. فليمض أصحاب الهمّة في تدميرها وفي قتل أبنائها الذين لم يدرسوا ويعيشوا في بريطانيا، ولترتفع فوق الجثث والأنقاض «مُولات»، يجد فيها الذين درسوا وعاشوا في بريطانيا ما لذّ وطاب. وليهنأ، بدوره، عريسنا بشّار، فعروسه عالم يقف بأسره طابورا طويلا عريضا يطلب اليد الشمعيّة.
وأمّا موت الأطفال فلم يعد خبرا. العرس الدائم احتفالا بالنجاح هو الخبر الدائم. وفي انتظار إعادة الإعمار
التي يتهيّأ لها الناجحون، فلترتفع الأنخاب الدمويّة ولتُشرَب.