قضايا وآراء

إبراهيم منير والخطاب المفقود

قطب العربي
1300x600
1300x600
أحدثت تصريحات الأستاذ إبراهيم منير نائب المرشد العام للإخوان المسلمين لموقع "عربي21" حول فكرة المصالحة دويا كبيرا، وفرضت نفسها على أجندة الإعلام سواء المؤيد للانقلاب أو المقاوم له على مدى أسبوع، ولاتزال تداعياتها مستمرة حتى الآن.

رغم أن الرجل السبعيني لم يقل جديدا من حيث المضمون، لكنه كان جديدا من حيث الشكل، ففي المضمون لم يثبت أن الإخوان رفضوا عمليا أي فكرة لمصالحة عادلة تعيد العسكر لثكناتهم، وتعيد المسار الديمقراطي الذي دشنته ثورة 25 يناير، وتحقق العدالة الناجزة لأسر الشهداء والمعتقلين والمشردين، ولكن من حيث الشكل لم تكن هناك لغة دالة على ذلك، بل كانت اللغة الشائعة إعلاميا هي لغة الرفض المطلق لكل شيء سوى إسقاط الانقلاب بالضربة القاضية.

بسبب الضجة الإعلامية التي صاحبت تصريحات الأستاذ منير عدت لقراءة التصريحات أكثر من مرة، وخرجت منها بما فهمته في أول مرة، وهو أن الرجل أحسن التعبير فقط عن موقف قائم فعلا، لم يكن أصحابه أو على الأقل المتحدثون باسمهم يحسنون التعبير عنه من قبل، هو موقف لا يرفض من حيث المبدأ السلم في حال جنح الطرف الآخر لذلك تطبيقا للمبدأ القرآني" وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم" وهو يطلب وفقا لكلامه المنشور (19-11-2016) "صورة واضحة للمصالحة التي تحقق السلم والأمن لكل الأمة المصرية، دون مداهنة أو خداع أو كذب على الناس"، وهو حين قال ردا على سؤال عن موقف الإخوان من المصالحة" نحن جادون، فليأتنا من حكماء شعبنا، أو حكماء الدنيا من يرسم لنا صورة واضحة للمصالحة...."، فإنما أراد بذلك أن يرمي بالكرة في ملعب الآخرين -ومنهم أصدقاء وحلفاء أيضا- يلقون بالمسؤولية على الجماعة في رفض أي مصالحة أو تسوية عادلة، هي إذن من وجهة نظري ضربة معلم بمجرد تعديل شكلي في لغة الخطاب مع الحفاظ على جوهر الموقف الراسخ الرافض لاستمرار حكم العسكر.

لقد كان معسكر الانقلاب أكثر ذكاء في لغة خطابه للعالم وللشعب المصري في هذه النقطة تحديدا، حين ادعى كذبا أنه راغب في المصالحة، وأنه مد يده أكثر من مرة، لكنه قوبل بالرفض، وظهر السيسي في أكثر من مقابلة تلفزيونية مرددا لهذه الأكذوبة، ووجد من يصدقه؛ بسبب لغة الخطاب الخشبية من الطرف المقاوم، ولذلك فقد ارتبك معسكر الانقلاب بسبب تصريحات نائب المرشد العام، وظهر ذلك جليا على أذرعه الإعلامية، وقد كان من المتوقع أن ترتفع وتيرة الارتباك لولا الحوارات التليفزيونية الليلية للأستاذ إبراهيم منير التي بدا فيها متراجعا عما قاله في حواره الصحفي صباح ذلك اليوم.

أدرك حجم الضغوط التي تعرض لها الرجل من داخل جماعته ومن خارجها، ودفعته لتوضيح تصريحاته بما أفقدها قيمتها، أو جزء كبيرا منها، وهي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها لهكذا ضغوط، وأدرك أيضا أن الرجل هو أكثر شخص في قيادة الجماعة يمتلك رؤية واضحة لتعقيدات الموقف التنظيمي والموقف المصري والإقليمي والدولي، وأنه هو من نجح بفريقه في لجم الشطط البريطاني المدفوع بمليارات الدولارات الخليجية لتصنيف الإخوان كجماعة إرهابية، وتمكن من الوصول إلى تقرير مقبول نسبيا لم يستطع وصف الإخوان بتلك الصفة التي دفعت من أجلها المليارات، وإن حوى بعض الإشارات السلبية. 

كما نجح لاحقا في دفع أطراف نافذة أخرى من داخل النظام البريطاني "لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان" لاستهجان ذلك التقرير وما تضمنه من إشارات سلبية بحق الإخوان نتيجة تلك الضغوط السياسية والمالية الخليجية، وأظنه هو القادر أيضا على الخروج بالجماعة بأمان مما يدبر لها حاليا في مراكز التآمر العالمية، ومواجهة موجة الكراهية والتعصب ضدها في الغرب والتي ظهرت جلية في خطابات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، والمرشح اليميني للرئاسة الفرنسية فرانسوا فيون، الذي تعهد -وسط تصفيق أنصاره- بتصنيف الإخوان كجماعة إرهابية وحل وحظر المجموعات المرتبطة بها في فرنسا.

هذا الخطاب العقلاني والرشيد لنائب المرشد العام فيما يتعلق بقضية المصالحة، سبقه خطاب رشيد أيضا ردا على بيان البرادعي ( 1 نوفمبر 2016) الذي حمل فيه عبد الفتاح السيسي وأركان حكمه المسؤولية المباشرة عن ضحايا مجزرة رابعة، إذ أن الأستاذ إبراهيم منير -وعلى خلاف لغة خشبية أحادية ترفض أي قول للبرادعي- أعلن ترحيبه بهذا البيان، ودعاه لكشف المزيد من الحقائق للمصريين، حتى لو كان فيها ما يدينه، مضيفا: "مصر أولى به وبكل أبنائها".

مثل هذا الخطاب الرشيد هو ما كان ينقص غالبية القوى المقاومة للانقلاب والتي غلب على خطابات الكثير من منتسبيها التشدد غير المبرر في الكثير من القضايا، فهي خطابات تصنع الكثير من الأعداء في الوقت الذي لا تستطيع فيه كسب أصدقاء جدد، بل إنها تقف حجر عثرة في طريق التوبة والعودة لمن يريد الخروج من معسكر الانقلاب بدعوى أنه شارك في الدم، ولو كان الأمر كذلك فإن هذا معناه أن نصف الشعب المصري شارك في الدم وهو كلام غير ممكن وغير مقبول.

كما أن الخطاب المراهق، الذي يضع فئات بمجملها في صف الأعداء مثل فئة المسيحيين والقضاة والإعلاميين والفنانين ورجال الأعمال والجيش والشرطة، أو عموم الليبراليين أو اليساريين، هو خطاب مناقض تماما لروح الثورة المصرية التي قامت على أكتاف كل أطياف الشعب المصري، وإن بنسب متفاوتة، هل ننسى أن ضباطا للجيش وآخرين للشرطة التحقوا بثوار يناير في ميدان التحرير بأزيائهم الرسمية في تحد واضح لقادتهم؟ وهل يمكن أن نتجاهل أن ضباطا حاليين أحيلوا لمحاكم عسكرية بتهم محاولة قلب نظام السيسي؟ مع ذلك لا نزال نسمع خطابا يضع جميع العسكريين في سلة واحدة، وأن الثورة حين تنتصر ستخنق آخر عسكري بأمعاء آخر قسيس الخ، وهو ما يدفع تلك الفئات للتشبث بحكم السيسي حتى وإن كانت متضررة منه مثل عموم المصريين.

خطاب الأستاذ إبراهيم منير ومن على شاكلته هو الخطاب المطلوب للتقدم بالثورة المصرية إلى الأمام لتحقيق أهدافها، من كسر للانقلاب، واستعادة للمسار الديمقراطي، فهو خطاب يحدد بدقة العدو والصديق، دون تفريط أو إفراط، وهو خطاب يجمع ولا يفرق، دون تنازل عن ثوابت أو تفريط في حقوق، وهو خطاب يدرك تعقيدات الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية ويتعامل معها، فلا يعاندها ولا يتماهى معها، هو خطاب يدرك أن الثورة لن تنتصر بفريق مهما أوتي من قوة، وبالتالي فهو يمد يده لكل المخلصين لبناء اصطفاف ثوري حقيقي، وهو خطاب يؤمن أن ثورة يناير هي ثورة عدل وحقوق وليست ثورة انتقام وتشفي، فيرسل رسائل طمأنة للفئات الخائفة على مصيرها، والتي يغذي مخاوفها تلك الخطابات الجانحة من هنا وهناك، هو خطاب في المحصلة يؤمن وينطلق من قوله تعالى" وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن".
0
التعليقات (0)