في الأسبوع الماضي، كانت تونس على موعد مع جزء يسير من تاريخ القهر الإنساني الذي عاشته لعقود تحت سمع ونظر أبنائها بل وتواطئ عدد غير يسير منهم. في قاعة ملأها جمع من المواطنين والضيوف الأجانب وأمام عدسات الكاميرا التي نقلت الوقائع بالمباشر على القنوات المحلية، تناوب على المنصة عدد من ضحايا سنوات الحكم البوليسي لـ"زين العابدين" بنعلي، ورووا من الفظائع ما لا تحتمل النفس البشرية تحمله فانهالت دموع الضحايا والحاضرين ومعهم كثير ممن تابعوا جلسات الاستماع التي تهدف هيئة الحقيقة والكرامة التونسية إلى أن تشكل لبنة أساسية في إقرار عدالة انتقالية هدفها القطع مع ممارسات الاستبداد البوليسي.
لم تكن تونس أولى الدول العربية في هذا المنحى بل سبقها المغرب بهيئته المسماة "هيئة الإنصاف والمصالحة" التي مكنت ضحايا سنوات الرصاص من البوح بأوجاع الذاكرة الفردية والجماعية. عملية بوح تكررها تونس وربما معها أخطاء التجربة المغربية التي ركزت خلالها السلطة على "مصالحة" دون محاسبة مقترفي الجرائم عزلا أو سجنا. الأدهى أن بعض الأسماء التي وردت على ألسنة المعتقلين، خارج جلسات الاستماع، ظلوا ولا يزالون يجولون ويصولون دون حسيب أو رقيب حتى أن أحدهم صار رئيس حزب يدخل الانتخابات ويفوز ببعض المقاعد ويعامل معاملة "الحليف".
في المغرب أصدرت هيئة الإنصاف والمصالحة توصياتها لكن الدولة تجاهلت الأمر واعتبرت بكائيات الجلسات أقصى ما يمكن تقديمه لطي الصفحة إلى الأبد. والصفحة التي أرادت الدولة طيها هي مطالبات الحقوقيين والضحايا بالقصاص العادل من الجناة. أما صفحة الانتهاكات فلا تزال مفتوحة تضم إليها أسماء جديدة كل يوم. والكلمة المفتاح هي إفلات الجناة من العقاب في الماضي كما الحاضر والمستقبل بكل تأكيد.
لم تنته جلسات الاستماع العلنية التونسية حتى جاءت الأخبار من مصر أن ضحية جديدة للنظام العسكري البوليسي سقطت تحت التعذيب. سقط بائع السمك مجدي مكين كما سقط كثيرون تحت سياط أمناء الشرطة. لكن مصر ألفت تلك "الحوادث" وكما رفعت الشرطة على الأعناق بعد "ثورة الثلاثين من يونيو" فهي مستعدة على ما يبدو لمد أعناقها للمقصلة لـ"تسلم الأيادي". أما في المغرب فلم يمر على "طحن" بائع سمك بشمال المملكة غير أيام حتى أصابت الشرطة شابا بمدينة بني ملال برصاصات في الرأس بدعوى السكر وحيازة سلاح أبيض وهو ما حدث أيضا يومين بعدها بمدينة سلا حيث ووجه أحد الجانحين برصاصات "أصابته إحداها في ساقه وأدت لوفاته بالمستشفى". أما خريطة الانتهاكات الجسدية والنفسية للمعتقلين فخريطتها موزعة من المحيط إلى الخليج.
هي سياسة ممنهجة لها أدواتها المستعدة للتفاني في ممارسات حاطة بالكرامة الإنسانية. والسؤال : من أين يأتون بكل تلك الطاقة السادية لممارسة التعذيب؟
لنتابع هذا الفيلم..
باب حديدي لمرآب فيلا تبدو من الخارج بناية عادية معدة للسكن. تمر امرأتان من أمام الباب في الوقت الذي يخرج منه شخص بلباس مدني.. ينظر يمينا ويسارا ثم يواصل مشيته ليبدأ فصلا حياتيا طبيعيا كأي شخص عادي. ليس الأمر كذلك فالشخص موظف في جهاز أمني مكلف برقن اعترافات المعتقلين السياسيين، وهي "الوظيفة" التي تفرض عليه حضور جميع أشكال الإهانة والتعذيب التي يتعرض لها المعتقلون. والفيلا وقبوها مقر أمني سري يشهد كل يوم فصول جلسات استنطاق وانتزاع للاعترافات وفق منهجية تعذيب يتفنن الجلادون في تطبيقها. والمشهد من فيلم الغرفة السوداء – 2004 للمخرج حسن بنجلون.
وفي فيلم احنا بتوع الاتوبيس- 1979 للمخرج حسين كمال، يصل عبد المعطي إلى بيته بعد يوم عمل شاق. تبدأ زوجته في غسل رجليه داخل سطل ماء على أمل أن يساعده ذلك على تجاوز الإجهاد البادي عليه.
الزوجة: يا خويا بلاها الشغاتنه ده.. ما كنا قاعدين في البلد مرتاحين بدل الغلب والشقا ايلي انت فيه ده.
عبد المعطي: الشغاتنه مش وحشه..ايلي بيتعبنا الناس الظلمة ايلي مقبوض عليهم.. كلهم خبث ولؤم وإجرام.. الحكومة شغالة ليل ونهار علشان لما نحارب اسرائيل نخلص عليها ونستريح ودول ناويين يحرقوها.. المصيبة إننا نفضل نضرب فيهم احنا نتعب وهما ولا كأنهم هنا.
الزوجة: خايفة لا حد يدعي عليك.
عبد المعطي: الخوف من دعوة المظلوم لكن دول ناس ظلمة.
الزوجة: مش بيقولو يا ما في الحبس مظاليم.
عبد المعطي: إلا دول! صدقيني.. احنا لما تعينا جديد الضباط الكبار جمعونا وفهمونا كل حاجة.. قالوا لنا مصر لا يمكن تنتصر ولا ينصلح حالها طول ما العالم ده بره المعتقل.
الزوجة: يا خبر يا سي عبدو
عبد المعطي: طب تقولي ايه في راجل كبارة تشوفيه تقولي طيب وغلبان وهو في الحقيقة واخد منشورات وعمال يوزعها في الأتوبيس ولا واحد ثاني طالب جامعة وعامل نفسه فنان ومؤلف وبيقول كلام زي كلام الأبالسه والشياطين.. تسمعيه تبقي عايزة تصدقيه.. أني نفسه وأني بضربه كنت حنخدع واسمع كلامه حسيت بيدي زي ما تكون مش قادرة تنزل عليه قمت قلت لنفسي لأ يا عبد المعطي فوق يا وله فوق قبل ما يبلفك زي ما بلف الشعب.. أقول لك على حاجة ثانية مش حتصدقيها.. عارفة دول كانوا عايزين يقتلوا مين؟
الزوجة: مين؟
يقترب منها ويتحدث إليها بصوت غير مسموع وعلى شفتيه نقرأ
عبد المعطي: جمال عبد الناصر..
الزوجة: يا مصيبتي!
عبد المعطي: ويا سلام بعد كل ده شوفي سعادة البيه المأمور بيعاملهم كيف.. يقول لده يا والدي بالفم المليان ويقول لده يا ابني ويعزم ده على قهوة وده على شاي زي ما يكونوا من بقية أهله لغاية بقا ما يتنرفز يروح ينده ناده علينا واحنا بقا نقوم بالواجب..
واجب قام به رجال غلاظ شداد لتأديب المحامي مصطفى خلف الذي أصر، في فيلم ضد الحكومة – 1992 للمخرج عاطف الطيب، على الذهاب حتى النهاية في اتهام الحكومة بالتسبب في حادث مقتل عدد من التلاميذ في حادثة تصادم بين قطار وحافلة مدرسية.
داخل مخفر الشرطة..
مصطفى خلف: تصدقوا بالله.. انتو صعبانين علي.
الأول: اشمعنا؟
مصطفى خلف: انتو تعرفوني قبل كده؟ فيه بيني وبينكم حاجة؟
الثاني: لأ
مصطفى خلف: طب بتضربوني ليه؟
الأول: ده شغل يا سيد! يالله يا خويا انت وهو لتودوناش في داهية..
وقد يكون هذا لسان حال "فرج" الذي وجد فيه الجلادون غايتهم لإهانة النساء المعتقلات.
فيلم الكرنك – 1975 للمخرج علي بدرخان..
بعد ضرب وصفع تلقته الطالبة المعتقلة زينب من يدي رجل المخابرات خالد صفوان داخل مكتبه، يطلب الأخير من أعوانه إدخال فرج..
خالد صفوان: انده لي فرج! أنا ح اعلمك ازاي تكلمي خالد صفوان.
يدخل فرج، وفي حضرة خالد صفوان وبقية معاونيه يبدأ مباشرة في خلع ملابسه ثم ينقض على الفتاة المعتقلة ويبدأ في اغتصابها بمساعدة أحدهم، وهي العملية ذاته التي يكررها أمام خطيبها اسماعيل المعلق بسلاسل داخل المعتقل لانتزاع اعترافاته.
هذا هو فرج وهذه "وظيفته".
هؤلاء مجرد أشخاص "عاديون" يؤدون وظيفة ينتظرون مقابلها راتب الحكومة لإعالة أبنائهم ولو على حساب معاناة الآخرين و"جثتهم". أما أصحاب السلطة الحقيقون فالمقابل ل"تضحياتهم" سلطة إضافية وترقيات.
يجر أمين الشرطة حاتم، في فيلم فوضى – 2007 للمخرجين يوسف شاهين وخالد يوسف، أحد الشباب المعتقلين إلى زانزانة بعد أن احتج الأخير على اعتقاله. في الزنزانة عدد من المحبوسين وآثار التعذيب بادية على أجسادهم.
حاتم: تعال.. هاتوهم كلهم.. شكلي بدل ماوديكم النيابة حوديكم الاستقبال (حفلة التعذيب) علشان تعرفوا أن الله حق. شايف دول لسه جايين من حفلة الاستقبال.. عايز تبقى زيهم؟
أحد العساكر(بصوت خفيض): يا حاتم باشا أنا عايز أقول لحضرتك أن فيه راجل مات من امبارح جوه.
حاتم: فين؟
يتوجهان إلى جثة الرجل الممدة.
حاتم: طلعوه برا وخلوا جثته في أنهي داهية لحد ما يموت بكره وبعدين أتصرف..
العسكري: يا باشا بقول لحضرتك الراجل مات.
حاتم: وأنا قلت يا نمرة أنه حيموت بكره.. ولما يموت بكره نبقى نتصرف.. فاهم؟
السلطة في حاجة لأمثال حاتم وغيره لذلك تدفع الجنود للاصطفاف في ساحة المعتقل الصحراوي، في فيلم البريء – 1986 للمخرج عاطف الطيب، انتظارا لسماع الأوامر الصادرة عن رئيس المعتقل.
الضابط فهيم: الأوامر الصادرة بأمر السيد العقيد توفيق شركس قائد المنطقة 777 عن يوم 28 سبتمبر. ترقية: يرقى الجندي رقم 932.567 أحمد سبع الليل رضوان الفولي إلى درجة عريف وذلك لإظهاره الشجاعة النادرة والتضحية.
يقلد العريف من العقيد درجته الجديدة وكلاهما يعرف أن كل ما قدمه سبع الليل من شجاعة وتضحية يتلخص في قتل الكاتب رشاد عويس، الهارب من المعتقل، ودفنه في رمال الصحراء.
أما في فيلم ضد الحكومة، وعندما بدأ التحقيق مع المحامي مصطفى خلف، لم يكن المحقق غير صبحي الذي سبق أن لفق له تهمة الرشوة سنوات قبل ذلك. لم يعد صبحي مجرد نقيب بل صار عقيدا له باع طويل في المجال والتهمة الجديدة الانتماء لتنظيم إرهابي يهدف لقلب نظام الحكم. لقد تمت ترقية النقيب إلى عقيد نظير ما قدمه للنظام وآلته البوليسية من خدمات "جليلة".
وكما بدأنا نعود إلى تونس التي تريد تقديم النموذج لنجاح "ثورات الربيع العربي"، فلها في السينما ما تقدمه عن الاستبداد والقمع البوليسي.
فيلم صراع – 2015 للمخرج المنصف بربوش.
في قاعة تحقيق..
المحقق: اسمك مصطفى؟ يا ولدي ما اسمك التنظيمي؟ نحن نعلم عنك كل شيء. نعرف أصلك وفصلك لذا رجاء لا تتعبنا.
المعتقل: أنا لا أتعب أحدا.
المحقق: الواضح أنك مصر على إتعابنا يا سيد أمير.
المعتقل: أمير؟
المحقق: نعم.. هذا اسمك الحركي ودورك في الحركة معروف.. كما أنك تصلي..
المعتقل: نعم، أصلي وأصوم ولو تركتموني أخرج من هنا سأؤدي فريضة الحج.
المحقق: والله؟ اقلع ملابسك يا سمير..
المعتقل: لا أفهم قصدك.
المحقق: ابدأ بنزع ملابسك قطعة قطعة .. هيا وإلا ستأتي زوجتك لتخلع مكانك.. (وهم يبتسم شامتا).
وفي غرفة أخرى تتواصل حفلة تعذيب السجين المعتقل الناصر. وبينما يتفنن الجلاد الملثم في تعذيب ضحيته، يبدأ الأمنيان الكبيران وصلة استهزاء.
أمني 1: أيها المواطنون، أيتها المواطنات.. لا ظلم بعد اليوم هاهاها..
أمني 2: ألم تقل أمس أن لا ظلم بعد اليوم؟
أمني 1: كان ذلك يوم أمس لكننا في يوم جديد.
يفكون الناصر من السلاسل ثم يمددونه على طاولة ويغتصبونه بعصا وهم يضحكون ويتباهون بما اقترفوا.
ترى أي منصب يتقلده هؤلاء الأمنيان في سلطة تونس "الجديدة"؟
ذاك هو السؤال وفيه الجواب الشافي لفيلم عربي طويل لا يريد أن ينتهي...