نقلت وسائل إعلام مصرية وفلسطينية موافقة السلطات المصرية على إقامة منطقة تجارية حرة بين قطاع غزة وسيناء، يأتي ذلك ضمن انفتاح مصري مفاجئ على القطاع، وتنفيذ تسهيلات واسعة تتعلق بمعبر رفح، إضافة إلى ندوات ولقاءات مصرية - فلسطينية متواصلة في القاهرة، لمناقشة مزيد من التسهيلات، تحديدا فيما يخص حل أزمات ومشاكل القطاع مثل الكهرباء المياه، البنى التحتية المنهارة، بعدما باتت قضية معبر رفح مفروغ منها تقريبا، حيث سيفتح بشكل منتظم وشهري وليس ليومين أو ثلاثة كل شهرين، وإنما مرتين شهريا كل منها خمسة أيام، أي لعشرة أيام في الشهر.
فتح المعبر بانتظام تقريبا خلال الشهر الماضي، من انعقاد مؤتمر السخنة 1 إلى مؤتمر السخنة 3 الذي تعقده صحيفة الأهرام الآن، يثبت في الحقيقة أن إغلاقه طوال السنوات الثلاث السابقة كان سياسيا، ولم يكن أمنيا أبدا، كون الظروف الأمنية لم تتغير أو تتحسن في سيناء، وما زالت على حالها، والإغلاق كان سياسيا لمعاقبة وعزل حماس، ضمن حرب النظام المجنونة على الإسلام السياسي – هو يستخدم حركة الجهاد الإسلامي للتعمية أو لتجميل مواقفه القبيحة فلسطينيا وإقليميا - كما للتقرب أكثر إلى إسرائيل عبر التنكيل بحماس وغزة وأهلها، وبما أن إغلاقه كان سياسيا فإن فتحه بانتظام يأتي أيضا في سياق سياسي تماما، مثل لقاءات السخنة المتواصلة، ويتعلق أساسا بتلميع وتعويم القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، وإعادته إلى المشهد السياسي كخليفة محتمل لأبو مازن، وفي الحد الأدنى كلاعب مركزي في الساحة السياسية والحزبية الفلسطينية.
الموافقة على المنطقة التجارية الحرة والانفتاح المصري المستجد غير المفاجئ تجاهها، يؤكد المنحى السياسي السابق، خاصة مع استحضار المواقف المصرية، وحتى الفلسطينية الرسمية السابقة من القضية نفسها.
طرحت حماس دائما فكرة المنطقة التجارية الحرة كبديل علني وقانوني للإنفاق غير الشرعية والخطرة والمؤذية أمنيا، وعلى كل المستويات في الحقيقة، وبدأ الأمر بطلب تحويل معبر رفح إلى معبر تجاري، وليس فقط لتنقل المواطنين، ثم تطور بعد ثورة يناير المجيدة ووصول الرئيس محمد مرسي للسلطة إلى طرح فكرة متكاملة، تضمنت المنطقة التجارية الحرة التي ستوفر بضائع جيدة ورخيصة الثمن للجمهور الفلسطيني، وتعود بالفائدة على الخزينة المصرية بثلاثة إلى أربعة مليارات سنويا، ومن جهة أخرى تريح غزة من تبعية وقبضة الاحتلال الإسرائيلي.
الفكرة تعرضت آنذاك لحملة إعلامية وسياسية شديدة من قبل السلطة الفلسطينية، بما في ذلك تيار دحلان طبعا، والأذرع الإعلامية المصرية التابعة والمسيرة من قبل الجهة السيادية التي كانت وما زالت متنفذة، أي المخابرات العامة التي رفعت في العام 2013 للرئيس محمد مرسي موقفها الرسمي الرافض للفكرة، بحجة أنها تكرس الانقسام الفلسطيني، والانفصال بين الضفة والغربية وغزة، وستحرر إسرائيل من مسؤوليتها كقوة احتلال لغزة، وتلقى تبعات ومسؤولية أو حبة البطاطا الساخنة الغزاوية إلى الحضن المصري.
أما في الإعلام الرسمي، وشبه الرسمي الفلسطيني والمصري على حد سواء، بما في ذلك من المنابر الدحلانية، فقد انهالت التقارير عن نية حماس في إقامة دولة فلسطينية مستقلة في غزة، وأنها تتماهى في ذلك مع المخططات الإسرائيلية ومخطط الجنرال إيغورا ايلاند تحديداً، الذي يتحدث عن توسع لدولة فلسطينية في اتجاه مصر، وضم مناطق من سيناء إليها، مقابل تعويض القاهرة بأراض بديلة في صحراء النقب، وضمان أردني للدولة في الضفة الغربية أيضا ضمن وحدة أو اندماج ما مع عمان وموافقة على ضم اسرائيل لنسبة كبيرة من أراضي الضفة، مع تقديم امتيازات ومكاسب للأردن للقبول بذلك.
خطة إيلاند التي حدثها اليمين الإسرائيلي، أو بعض فئاته المتطرفة لتصبح دولة أو حتى سلطة في غزة منفتحة على مصر، تقتطع أو لا تقتطع أراضي من سيناء، وبلا أي تعويض إسرائيلي لمصر، ومع حكم ذاتي موسع في الضفة الغربية خاضع لإشراف فلسطيني أو أردني لا فرق، ودائما تحت الوصاية أو السيادة الإسرائيلية.
حماس تريد فك الحصار غير الشرعي، وغير القانوني ضد غزة وضدها، وهذا هدف نبيل طبعا خاصة أنه قد يتحقق بدون مطالبتها بأي تنازلات سياسية أو أمنية، تحديدا فيما يتعلق بسلطتها المطلقة في القطاع، وكل ما هو مطلوب منها إعطاء مزيد من الحرية بالعمل والتنقل لدحلان وأنصاره، وهي لا تتأثر من ذلك حتى مع تصويره كمنقذ ومخلص لمشاكل وأزمات القطاع، غير أنها يجب أن تنتبه ألا تحل مشاكل القطاع على حساب القضية الفلسطينية، وأن المنطقة التجارية الحرة الممتدة على مسافة كيلومترات أو حتى بمحيط المعبر فقط، ستخلق مع الوقت سيرورة تجعل القطاع متعلق بمصر ومع حاجته لسنوات - وربما لعقود للتعافي - سيبتعد أكثر فأكثر عن الضفة، وإذا ما استمر الانقسام السياسي والانفصال الجغرافي الحاصل حاليا، سنصبح فعلاً أمام سلطة أو كيان مستقل نوعا ما عن بقية فلسطين، والمقاومة بغزة هي أصلا بحالة دفاعية، فلن تغامر بشن أي حرب في ظل حالة النهوض وازدهار التي سيشهدها القطاع، مع كسر فعلي للحصار وتدفق البضائع الأساسية ومواد إعادة الإعمار الأخرى إليه.
دحلان يسعى من جهته إلى استعادة مكانته بأي وسيلة، وهو سيكتفي لفترة من الوقت بصورة المنقذ أو القادر على تخليص القطاع من أزماته، وقد ستزداد شعبيته داخل فتح وغزة بشكل عام، غير أن تعثر المصالحة واستمرار الانقسام، و ترتيب أمر خلافة الرئيس عباس بالضفة بعد مؤتمر فتح السابع سيبعدانه عن الصورة، وما سيتبقى له مصالح سياسية واقتصادية فئوية وشخصية ضيقة في المنطقة التجارية الحرة، وقد تتحول الحيلة التكتيكية إلى مأزق استراتيجي، ويساهم بنفسه بما حذر منه دوماً أي تقوية سلطة حماس بغزة، مع انفصال شبه تام عن الضفة وبقية فلسطين.
النظام المصري البوليسي الحاكم الآن، والذي كان أوصى بنفسه في الماضي عبر إحدى أذرعه الأساسية المخابرات العامة، برفض تام للفكرة مستعرضا أضرارها الإستراتيجية، غير رأيه الآن لعدة أسباب سياسية وأمنية، أولها هوسه بتلميع وتعويم دحلان، وإعادته لمركز المشهد الفلسطيني، ومنها رغبته بجر حماس إلى تنسيق أمنى أعمق معه فيما يخص مواجهة داعش بسيناء، المواجهة التي يقف أمامها عاجز فاقد الحيلة، وربما فكر فعلا أن المنطقة التجارية الحرة ستخلق ازدهارا في سيناء يخفف من الفقر والبطالة للسيناريوين، وينهي البيئة الاقتصادية والاجتماعية الحاضنة للتنظيم في شبه الجزيرة، والأهم طبعاً أنه يواجه وضعا اقتصادياصعباوحرجا، ويطمع بالتأكيد في مشروع قد يدر له ما بين ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار سنويا.
لا يمكن أن يكتمل المشهد طبعا دون التطرق إلى الموقف الإسرائيلي غير المنزعج بل ربما المرحب والمؤيد للفكرة، وأصلا من المستبعد أن يكون النظام المصري قد بادر إلى كل الخطوات والتسهيلات الأخيرة تجاه غزة من دون تنسيق ما، أو حتى ضوء أخضر من تل أبيب، التي تفهم أن تحسن الوضع الاقتصادي الاجتماعى في غزة سيمنع انفجاره في وجهها، هي التي تبدو مستلبة لفكرة الوضع الراهن وعدم تغييره سلما أو حربا، بمعنى أن إلقاء مسؤولية غزة على مصر مثل حلما قديما لها، وها هو يتحقق بدون أي تنازل أو حتى تسوية ما، وهي تفهم طبعا السيرورة الناشئة التي ستربط القطاع بمصر شيئا فشيئا، ولا حاجة لأي خطط بعد ذلك من جهتها، لتصفية القضية الفلسطينية، فقط ترك الزمن يفعل فعله وبأقل أثمان أو أضرار ممكنة عليها.
رفع الحصار عن غزة هدف نبيل وهام بالتأكيد، ومصر عليها مسؤوليات إنسانية أخلاقية وسياسية تجاه القطاع المحاصر، وأفضل ما يمكن أن تفعله هو الدعوة للقاء بين فتح وحماس في القاهرة للتفاهم على كيفية تنفيذ وثيقة المصالحة التي توسطت بها القاهرة نفسها، وتحديدا المخابرات العامة الحاكمة والمتنفذة الآن. كما كانت دائما مع انفتاح جدي ومصداق نزيه على الجهتين والإقلاع عن فكرة تجاهل حماس أو عدم تقديم أي مكسب سياسي أو معنوي لها، وفتح قنوات مباشرة للحوار مع الحركة الإسلامية المركزية والقوية، كما مع الرئيس عباس بعيدا عن الضغط والابتزاز لإعادة دحلان وتعويمه، غير أن نظام الجنرال البائس ليس بهذا الوارد، ليس فقط لأزماته البنيوية العميقة وشعوره بالعجز وهروبه المنهجي والجنوني إلى الأمام، ولكن لكونه فشل في توفير الخبز الحرية الكرامة والعدالة الاجتماعية لشعبه، ومن يفشل عن تحقيق ذلك لنفسه وشعبه لا يمكن أن يفعله مع الأشقاء والجيران.