لو كان للمرء أن يختزل النموذج الاقتصادي، الذي بنيت عليه المنابر
الإعلامية التقليدية، والصحافة المكتوبة على وجه التحديد، لقال التالي: إن هذا النموذج إنما تمثل ولا يزال يتمثل في عملية تغطية مجموعة من التكاليف القارة (إدارة التحرير، الأداة الصناعية وأداة الإنتاج، شبكة التوزيع... إلخ)، بالارتكاز على مصدرين اثنين للدخل: بيع الجريدة الورقية (أو نسب الاستماع أو المشاهدة بالنسبة للإذاعة والتلفزة)، ثم ما يدره الإشهار الممرر عبر هذا المنبر أو ذاك، مقروءا كان أو مسموعا أو مرئيا.
بيد أن الحاصل، منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، أن
الشبكات الرقمية قد رفعت تحديات كبرى بوجه هذا النموذج، لا سيما بجانب المداخيل، مع استمرارية ضغط التكاليف القارة، "الكابسة على أنفاس" المنابر التقليدية، والحادة من سبل تطورها.
ففي حين بقيت أسعار اقتناء الصحافة المكتوبة (وإلى حد ما المحطات الإذاعية والتلفزية) بمستواها المرتفع، كل حسب إكراهاته الذاتية أو استراتيجيات نموه، لاحظنا ولا نزال نلاحظ أن الشبكات الرقمية (وإلى حد بعيد المحطات التلفزية الأرضية أو المقتنية للسواتل) قد رفعت لواء المجانية، أو الاشتراك الرمزي، لغرض ولوج أو تصفح هذا الموقع الإخباري أو ذاك، لا بل إنه في حين يشترط، للاشتراك في منبر مكتوب، اقتناء أعداد ما يقدمه هذا المنبر، فإن الاشتراك بالانخراط في موقع ما بالإنترنت، يعطي المشترك إمكانية التصفح المستمر، على اعتبار أن تصفحا إضافيا أو لعدة مرات، لا يكلف المنبر شيئا يذكر.
بالتالي فكائنة ما تكن المرات التي يتم فيها تصفح موقع إخباري ما على شبكة الإنترنت، فإن الثمن أو السعر لا يتغير بالمرة؛ لذلك، فإن هذه الشبكة تعطي الانطباع بالمجانية، وتعطي بتحصيل حاصل، الانطباع بأن المضامين والخدمات المروجة من بين ظهرانيها، إنما هي مضامين وخدمات مجانية، لا تفعل فيها كثيرا أطروحة الأداء عند الاستخدام، التي لاقت رواجا واسعا من ذي قبل.
وعلى الرغم من أن النماذج الاقتصادية لم تستقر بعد بالشبكات الرقمية، قياسا إلى المنابر الإعلامية التقليدية، فإن "نموذج" الأداء الممول عن طريق الإشهار، هو النموذج المهيمن، لا سيما فيما يتعلق بالأخبار السياسية أو الترفيهية، حيث العروض المجانية مقدمة بوفرة وبتنوع كبيرين.
بالتالي، وبالبناء على نظرية الرواج، فإذا كانت شبكات التواصل قد مكنت "المتلقي/المستهلك" من ترتيب خياراته وفق منظور الوقت (على اعتبار تراجع الوقت المخصص للمنابر التقليدية، بالقياس إلى المستجد منها)، فإنها قد مكنته أيضا من الحسم في ذات الخيارات وفق منطق المصاريف، أي أن هذا المستهلك/المتلقي غالبا ما يفضل منبرا يمنحه الوفرة بأقل تكلفة، مقارنة مع من لا يمنح هذه الوفرة، أو يوفرها بتكلفة مرتفعة. بهذه الجزئية، يبدو أن هذه الشبكات قد حازت مرتبة السبق، بالقياس إلى "غرمائها" التقليديين، بطيئي السرعة أو متواضعي القدرات.
إن تحديا من هذا القبيل ليس من شأنه فقط أن يدفع المنابر الإعلامية المكتوبة مثلا، إلى خفض أثمانها، ورسوم اشتراكاتها، وتعرفة الإشهار الذي تمرر، أقول إلى خفضها إلى ما لا نهاية، بل من شأنه أيضا أن يدفعها لعرض منتوجاتها بالمجان، مقابل تحصيل تكاليفها من جهات معينة، أو بمداخيل إشهارية جزافية من هنا أو هناك.
قد يكون هذا المصير حالة استثنائية، على اعتبار أن "التعاطف" مع الإعلام التقليدي لا يزال قائما لأكثر من سبب، لكن الثابت مع ذلك وإن بالتدريج، أن المعلنين إنما باتوا يبحثون عن المنبر الذي يضمن لهم "نسبة مطاولة" أكبر وأوسع، وشبكات الإعلام الجديد والتواصل الاجتماعي بهذه الحالة، أثبتت أنها الأنجع والأقوى، بحكم انتشارها، وسعة مجال تغطيتها وكلفتها المتواضعة.
لا تقتصر ميزات هذه الشبكات، بالنسبة للمعلنين، على الفضاء الذي باتت الشبكات إياها تغطيه بكل جهات العالم، حيث مجال اشتغال ذوات المعلنين بظل العولمة وانفتاح الأسواق، بل تتعداه إلى جانبين إضافيين اثنين، لا توفرهما المنابر الإعلامية التقليدية مباشرة، أو لا توفرهما إلا بعد حين:
الأول ويتمثل في نجاعتها المباشرة (نجاعة الشبكات أقصد)، وقدرتها على إخبار المعلن عن عدد "المتلقين/المستهلكين"، الذي تصفحوا إعلانه من خلال الشبكة، إذ كل نقرة على يافطة المعلن بهذا الموقع أو ذاك، بهذا المحرك أو ذاك، هي علامة على حجم من اطلع عليها، بعدد المرات، كما بمواصفات وجهة انتماء من تصفح، والمدة التي قضاها للاستخبار عن المنتوج أو الخدمة المعلن عنها.
أما الثاني، فيكمن في نجاعة ذات الشبكات، والمرونة التي تتمتع بها عند الحاجة إلى التحيين، التي قد يبديها المعلنون والمشهرون لهذا السبب أو ذاك...وهو ما لا يمكن تداركه، أو تداركه بعسر أو بعد فوات الأوان، بالنسبة للمنابر التقليدية، لا سيما المكتوبة منها.
يبدو إذن بالمحصلة النهائية، أن النماذج الاقتصادية التي ارتكزت عليها المنابر التقليدية، ومكنتها من بلوغ أوجها، قد تراجعت إلى حد بعيد، وباتت شبكات التواصل الجديدة ليس فقط عنصر زعزعة حقيقي لذات النماذج، بل مكمن مخاطر كبرى للمنابر التي لا تزال تراهن عليها.