قضية المواطن مجدي مكين شغلت الرأي العام المصري طوال اليومين الماضيين، ومجدي مواطن بسيط من عوام أهل مصر وكادحيهم، يعمل على عربة كارو لبيع السمك في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة، وأثناء عودته ليلا استوقفه كمين شرطة، وهنا وقعت مخاشنة يصعب معرفة تفاصيلها، لأن أحد طرفيها مات، وهو مجدي، والطرف الآخر هي الشرطة المتهمة بقتله.
والمهم أن مجدي -حسب رواية الشرطة- تم اصطحابه إلى قسم شرطة الأميرية، وعندما وصل إلى القسم سقط مغشيا عليه دون أن يلمسه أحد، حسب رواية الضابط للنيابة، ولما فحصوه وجدوه قد مات، وفي اليوم التالي تم إخبار أهله بوفاته وضرورة استلام الجثة، وهو سيناريو مكرر، سمعه المصريون كثيرا خلال السنوات الأخيرة، والمهم أن أهل مجدي رفضوا استلام الجثة لأنهم رأوا عليها آثار تعذيب وحشي حسب قولهم، وتم نقلها إلى الطب الشرعي لفحصها، تسرب كلام في الصحافة أن تقرير الطب الشرعي قال أنه مات بهبوط حاد في الدورة الدموية، وهو الكلام التقليدي الذي يقال في كل الحالات المشابهة.
غير أن متحدثا رسميا باسم الطب الشرعي قال أن هذا كلام أولي وليس تقريرا نهائيا، من جانبه قال مدير مباحث العاصمة أن مجدي مات بسبب انقلاب عربة الكارو أثناء محاولته الهروب من الكمين، وهو كلام رفض تصديقه كثيرون، باعتبار أن العربة الكارو لا يمكن أن تسابق حتى "بسكلتة" وليس سيارة شرطة أو موتوسيكل، كما أن انقلاب العربة لا يمكن أن يفسر كل الجروح التي وضحت على جسد الضحية في الصور التي نشرت والتي يبدو في بعضها أنه تعرض للاغتصاب وآثار الدم واضحة في أسفل ظهره.
النيابة قالت أن تحقيقاتها الأولية أثبتت رواية الداخلية، وأن الضحية كان مات بسبب انقلاب عربته الكارو، وقامت بصرف الضابط المتهم بالواقعة من سراي النيابة بدون ضمانات، في إشارة إلى براءته التامة من التهمة، لكن النيابة قالت أنها تنتظر تقرير الطب الشرعي لكي تتخذ قرارها النهائي في الموضوع، ومن جانبها قامت الداخلية بتسريب ما أسمته "السجل الجنائي" للضحية، وهي أيضا طريقة نمطية لسلوك الداخلية في القضايا المشابهة، من أجل تشويه صورة الضحية ومنع أي تعاطف شعبي معه باعتبار أن له سجلا إجراميا.
وقامت الصحف المقربة من الأجهزة بنشر صور "وثائق" السجل الجنائي، بما يعني أن جهة رسمية سلمتهم إياه، وهو أمر يعتبر تدخلا في أعمال القضاء ومحاولة للتأثير على التحقيقات الجارية، غير أن السجل المنشور لا يكشف عن أي إدانة للضحية بحكم قضائي، كل ما فيه أنه كان متهما في قضايا مخدرات، لكن لم يثبت ضده أي حكم، أي أنه حتى تلك اللحظة بريء من تلك التهمة، وهذا نفس ما فعلته الداخلية في مواجهة قضية مقتل "طلعت شبيب" في قسم شرطة بندر الأقصر تحت التعذيب، وكذلك مقتل طالب الطب أحمد مدحت في مدينة نصر بالقاهرة.
مضت الأمور على ذلك النحو، وكانت القضية في طريقها إلى النسيان، حتى تحركت الكنيسة -باعتبار أن الضحية مواطن مسيحي- وقام وفد كنسي رفيع المستوى بزيارة أسرة الضحية للتضامن معها، وأعلنوا بعدها أن مجدي مكين تعرض للتعذيب البشع في مقر احتجازه بقسم الشرطة وهو ما أدى لمقتله، وهو ما حرك القضية من جديد، فقام وزير الداخلية بإصدار قرار بوقف الضابط المشار إليه عن العمل وإحالة قسم الشرطة بكامله للتحقيق، حسب ما نشر، وهو أمر لافت وغريب؛ لأن القضية الآن يتم التحقيق فيها من قبل القضاء، ويفترض أن تمتنع أي جهة عن التدخل فيها حتى يقول القضاء كلمته، والنيابة حتى الآن لم تتهم أحدا من الداخلية، فعلى أي أساس يقرر الوزير التحقيق، وهو ما يفترض أن هناك "احتمالا" بتورط الضابط ورجاله في مقتل مجدي مكين
واقعة مقتل مجدي مكين تأتي بعد شهرين من مقتل طالب الطب أحمد مدحت، في ملابسات مشابهة، حيث قالت أسرته أن قسم الشرطة أخبرهم بأنه تم القبض عليه لتنفيذ حكم غيابي في قضية تظاهر، ثم أخبروهم بعدها أنه تم القبض عليه بعد ضبطه في بيت دعارة، ثم أخبروهم بعدها أن ابنهم مات بعد قفزه للهرب من بيت الدعارة وعليهم استلام الجثة، وهو ما رفضته الأسرة بعد أن رأوا آثار التعذيب بالكهرباء والكي على جسد الضحية وأثر الرغاوي في فمه، ولا يعرف أحد حتى الآن إلى أي مدى وصلت التحقيقات في قضية مقتل أحمد مدحت، لكن الجديد أن إحدى المحاكم أصدرت مؤخرا حكما يبرئ أحمد مدحت من تهمة التواجد في بيت دعارة، لكن أحمد مات على كل حال، ويبقى الحكم له رمزية أدبية ليس أكثر.
الأمر المؤكد أن مقتل مجدي مكين لن يكون الأخير، طالما بقيت آليات تحقيق العدالة على هذه الوتيرة، وطالما شعر بعض رجال الضبط، وخاصة الشباب قليلي الخبرة منهم، بأنهم محصنون -عمليا- فمن أمن العقوبة أساء السلوك بطبيعة الحال وجرؤ على خرق القوانين والقواعد، وما جرى مع مجدي ومن سبقوه أضر بسمعة نظام السيسي بكل تأكيد، غير أن الأخطر من ذلك أنه يضعف إيمان المواطن بحضور العدالة ومرجعيتها، خاصة في علاقته بالدولة وأجهزتها، وهو أمر خطير وله تداعيات مهددة لسلامة المجتمع وأمنه وأمانه.