كتاب عربي 21

الأوباش وإعادة تدوير "المواطنين"..!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
صورة مفجعة تلك التي تناقلتها المواقع والقنوات والصحف عن بائع أسماك تحول جثة إلى هامدة بين فكي أداة عصر النفايات بمدينة الحسيمة المغربية.

صورة كان بالإمكان أن تتعامل معها السلطة بما يمكنها من "تجاهل" أو "استخفاف" لولا أن البلد مقدم على استضافة الدورة الثانية والعشرين لمؤتمر الأطراف في الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة بشأن تغير المناخ (COP22) في مراكش في السابع من نوفمبر الجاري. وفود بأوامر ملكية في بيت عائلة القتيل، وتحقيق قضائي سريع، على غير العادة، واعتقال لمتورطين محتملين، والهدف إغلاق ملف تحول إلى كرة لهب انطلقت من الحسيمة وتدحرجت بسرعة مخيفة لتصل مدنا ومداشر في شمال وجنوب البلاد بل تخطت الحدود إلى باريس وبروكسل وعواصم غربية أخرى.

مرحبا بكم في بلاد إعادة تدوير "المواطنين"

قبل أشهر، عاشت مدينة القنيطرة على وقع حادث إحراق بائعة حلوى متجولة لنفسها أمام مؤسسة حكومية بعد مصادرة بضاعتها و"إهانتها". يومها، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي وبعض من شوارع المملكة بمظاهر التضامن مع "مي فتيحة"، وفتحت الدولة تحقيقا قبل أن ينتهي الأمر إلى لا شيء. وقبلها بأشهر، لم تجد الدولة غير شاحنات أزبال لتنقل جثث موتى غرقوا بجنوب المملكة بعد الفيضانات التي شهدتها المنطقة في انتهاك صارخ لحرمة الموت وجلاله... وانتهى الموضوع إلى لا شيء.

وفي العام 2001، شهدت نفس مدينة الحسيمة مقتل خمسة شبان حرقا عُثِر على جثثهم داخل وكالة بنكية بالمدينة على إثر الاحتجاجات التي شكلت انطلاقة ما عُرف بعدها بحركة 20 فبراير. يومها، كان حزب العدالة والتنمية في المعارضة فبادر بطلب إحداث لجنة لتقصي الحقائق حول ظروف وملابسات اندلاع العنف الذي أدى إلى خسائر مادية جسيمة، وفك لغز وفاة الضحايا الخمس، وطالب رئيس الفريق البرلماني للحزب آنذاك، مصطفى الرميد، بإعادة تشريح الجثث المتفحمة لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة في تكذيب ضمني للرواية الرسمية. انتهى الموضوع باعتلاء الرميد لدفة وزارة العدل والحريات ليعلن أن القضية قُيِّدت ضد مجهول. 

والمجهول هو ما يحملنا إليه رد الفعل الحكومي إزاء مقتل محسن فكري، حين اعتبر رئيس الوزراء الأمر حدثا عاديا، وأضاف رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية سعد الدين العثماني أن مثل هذه الأحداث تقع في العالم كله، وهذا صحيح. المؤكد أيضا أن الفارق بين دولة كالمغرب ودول العالم الأخرى التي ضرب بها العثماني مثله هو ثقة المواطن في سيادة القانون وسمو العدالة وقدرتها على معاقبة المذنبين، والتزام الدولة وقواها السياسية بتحصين المواطنين ضد تكرار الواقعة بالقانون والتشريعات.

كانت الفرصة مواتية أمام الدولة المغربية لأجرأة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة بما يمثله ذلك من ترسيخ لمنظومة قانونية تقطع مع ممارسات الماضي وتنهي فصول الإفلات من العقاب. لكنها أبت إلا أن تكابر باسم "هيبة الدولة" وتمنح لموظفيها "حصانة" خارج القانون، وفي ذلك إشارات سلبية للإدارة بالتمادي في انتهاكاتها. في الحسيمة، جاء الجواب على سؤال العاهل المغربي في افتتاحه لدورة البرلمان، بداية شهر أكتوبر، وتساؤله عن الأسباب التي جعلت علاقة المواطن بالإدارة خارج السياق السليم. النتيجة: خمسة أضلع مكسورة من القفص الصدري وجرح غائر بعمق خمس سنتمترات على مستوى الجهة اليسرى من الصدر، وورم دموي في جهة أسفل الرئة اليسرى، حسب التقرير الطبي الذي أجري على جثة الهالك، وإدخال للبلاد في نفق أسود لا تعرف تداعياته حتى اليوم.

لقد أبى رئيس الوزراء، الذي جاب المغرب طولا وعرضا قبل أسابيع في إطار حملته الانتخابية، أن يقدم العزاء لعائلة الضحية علنا وأن يعلن التزامه بإحقاق العدالة مفضلا اللقاء، يوم الجنازة، برئيس حزب التجمع الوطني للأحرار للبحث في تشكيل الحكومة الجديدة، بعد أن أصدر الأوامر لأعضاء حزبه ومنتسبيه بالامتناع عن المشاركة في أي شكل احتجاجي بعلاقة مع حادثة القتل. رئيس التجمع الوطني للأحرار هو بالمناسبة وزير الفلاحة في الحكومة المنتهية ولايتها وهو مسؤول عن قطاع الصيد البحري الذي وقعت حادثة توقيف بائع السمك تحت طائلة قوانينه وبعدها إتلاف بضاعته وما تلاها من حادث تراجيدي كان له أبلغ الإساءة للوطن وأبلغ الأثر في نفوس "المواطنين". لم يجد الحزب "الحاكم" في المغرب غير التذكير بأن والد المقتول عضو مؤسس للحزب في المنطقة كما كان غريمه حزب الأصالة والمعاصرة مبادرا لنشر صور لـ"مي فتيحة" باعتبارها متعاطفة مع الحزب بمدينتها.

وفي ظل هذا العجز الحزبي في تأطير الشارع وهذا الجبن السياسي المكرَّس باختفاء رئيس الوزراء ورئيس الجهة (بنكيران / العماري) عن المشهد وصوم الأحزاب عن التموقع دون إشارات السلطة لها بالتحرك، كان لابد لبعض الكائنات التي اتخذت من الركوب على المآسي والقضايا المجتمعية وسيلة لتصَدر تظاهرات الاحتجاج والحديث باسم شعب وأسرة لم تجد غير المناداة بعدم استغلال مأساة ابنها في إحداث "الفتنة" بالبلاد. ولأن في التاريخ محطات "خالدة" في الذاكرة الجمعية، لم تجد نائبة برلمانية من حزب الاتحاد الدستوري غير التذكير بوصف الملك الراحل الحسن الثاني لأبناء الريف بـ"الأوباش" في خطوة ما كان لها إلا أن تصب الزيت على النار. هذا نموذج من طبقة سياسية أفرزتها صناديق الاقتراع أو كوطا الريع النسائي بالبرلمان، في مواجهة شعب خرج في تظاهراته السلمية تعبيرا عن غضبه وعن مواقف مكوناته مهما بلغت من درجات التطرف حد رفع علم "جمهورية الريف" أو علم المستعمرة السابقة إسبانيا.

في بداية حكم العاهل المغربي محمد السادس، كانت منطقة الريف (شمال المغرب) مسرحا  لأولى جولاته الداخلية. وكان الاختيار مؤشرا على مرحلة "مصالحة" تقطع مع رواسب تاريخ من التوجس بين السلطة المركزية وأبناء المنطقة منذ ما اعتبر تأسيسا  لجمهورية الريف من طرف الزعيم عبد الكريم الخطابي مرورا بقصف المنطقة بالطائرات العسكرية في البدايات الأولى للاستقلال وتزعم عسكريين منحدرين من المنطقة لمحاولات الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني  وانتهاء بالتهميش الذي طال المنطقة وسكانها لعقود. لكن الواضح أن ما تختزنه الذاكرة من وقائع الماضي الأليم أكثر رسوخا من أن يمحوها الزمان. ولم تكن الطبقة السياسية، خصوصا في خضم القطبية التي أفرزها الصراع الانتخابي الأخير بمساهمة في الاحتواء وبناء صفحة جديدة فقد تحولت مدينة الحسيمة، ذاتها، لحلبة صراع بين الغريمين عبد الإله بنكيران وإلياس العماري لدرجة أن الأول، وفي زلة لسان، سقط في المنطقة الرمادية بين إنكار معرفته بوجود المدينة بما يمثله ذلك من استخفاف بساكنتها، وإنكار وجود حزب الأصالة والمعاصرة كقوة سياسية في البلاد، وهو ما استغله كثيرون لتأجيج الأحقاد.

مات محسن فكري مقتولا وهي جريمة متكاملة الأركان قد يدفع بعض أكباش الفداء ثمنها.. وستتمكن الدولة من تنظيم مؤتمرها العالمي للمناخ بحضور "خدامها" الإداريين والسياسيين. لكن الاعتماد على دور الملك "الإطفائي" يبدو مستنفذا لأغراضه بما يمثله ذلك من استنزاف لرمزيته في النسق السياسي المغربي، وهو ما يفرض على القائمين على تدبير الشأن العام إعادة الاعتبار لدور المؤسسات وترسيخ مبدأ اربط المسؤولية بالمحاسبة  بدل تدوير الأزمات و"المواطنين" ولو في طواحين أزبال ونفايات.
0
التعليقات (0)