مقالات مختارة

مِن دحر المغول إلى الانتصار على فرنسا

حسين لقرع
1300x600
1300x600
يحقّ للجزائريين جميعا أن يفخروا أمام مختلف شعوب العالم بثورة أول نوفمبر 1954؛ فهي ليست فقط أكبرَ ثورة ضد الاستعمار في القرن العشرين، بل هي أيضا أوّل حرب ينتصر فيها المسلمون منذ قرون حينما نجح قُطز في وقف زحف المغول في عام 1260م بعين جالوت، بعد سلسلة هزائم متتالية للمسلمين أفضت إلى سقوط مدوّ للخلافة العباسية.

وما بين الفترتين، انتصر المسلمون في معارك كثيرة، ولكنهم لم يحققوا نصرا حاسما في حرب طويلة، حتى الخلافة العثمانية التي قارعت الأوربيين 4 قرون، وفتحت البلقان، ووصلت إلى حدود فيينا، خسرت الحرب في آخر المطاف في موقعة نافارين عام 1827، ونجم عن ذلك احتلالُ أغلب أقطار العالم الإسلامي، ثم إنهاء الخلافة نفسها في 1924.

ثورة نوفمبر تُعدّ معجزة حقيقية؛ فقد استطاع مجاهدون لا يملكون إلا أسلحة خفيفة أن ينتصروا على قوّة عسكرية جبّارة تمكّنت من قبل من كسب جميع المعارك التي خاضتها ضد المقاومة الشعبية، وأجبروا الاحتلالَ على ترك الفردوس الجزائري والانسحاب مذموما مدحورا، لا شكّ أنهم خسروا أيضا معاركَ عديدة، لكنهم كسبوا الحرب في النهاية. إذن العِبرة بالنتائج، والثورة الجزائرية كانت أوّلَ انتصار حربي حقيقي للمسلمين منذ سبعة قرون كاملة (1260- 1962)، وكانت بحقّ ثورة عظيمة قادت إلى تحرّر شعوب عديدة في العالم فاستحقت وصف كعبة الثوَّار وقِبلة الأحرار.

واليوم وقد استعادت الجزائر استقلالها بعد تضحيات شعبية جسيمة، وحققت نصرا تاريخيا، يجدر بالجزائريين جميعا أن يقدّروا تضحيات أسلافهم، وأن يسعوا إلى الحفاظ على بلدهم وتجنيبه الهزات والفِتن التي تحاصرنا من كل جانب في محيط أضحى يعجّ بالاضطرابات.. حريّ بالجزائريين أن يحافِظوا على بلدهم ويواصلوا مطالبتهم ببناء "دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية"، كما أرادها بيانُ أول نوفمبر وكافح من أجلها المجاهدون والشهداء ومعهم 11 مليون جزائري.

إنّ التفاف الجزائريين حول وطنهم ليس صكا أبيضَ للسلطة لتفعل ما تشاء، بل إنها مدعوّة إلى القيام بإصلاحات جذرية عميقة في شتى المجالات، وفي مقدِّمتها تجسيد الديمقراطية الحقيقية، وإعادة الكلمة إلى الشعب؛ عبر السماح بإجراء انتخابات حرّة وشفافة، ومكافحة ناجعة للفساد والنهب والبيروقراطية والظلم و"الحقرة" والتهميش، وتثمين العمل والإبداع والكفاءات، وإعادة توزيع الثروة بإنصاف، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، وإرساء أسس العدل بشكله الواسع باعتباره "أساس المُلك"، والحصن الحصين ضد الفتن والاضطرابات، فضلا عن القيام بإصلاحات اقتصادية عميقة تضع حدا للاعتماد على الريع النفطي، وتسمح ببناء اقتصاد مُنتِج متعدِّد المصادر، يخلق الثروة ووظائفَ الشغل ويضمن العيش الكريم للمواطنين..

ليس من المنطقي أن البلاد التي كانت تفيض بخيراتها على أوروبا، وتصدّر إليها الحبوب في العهدين العثماني والفرنسي، تصبح الآن أحدَ أكبر البلدان المستورِدة لهذه المادة الحيوية. إن بلادا بحجم قارة تعجز عن إنتاج غذائها ودوائها والكثير من الحاجيات الأساسية لشعبها وتواصل استيرادها من الغرب بعائدات النفط، وتفشل في بناء اقتصاد مُنتج يحرِّرها من التبعية للمحروقات طيلة 54 سنة كاملة من الاستقلال، هي بلاد لم تستكمل عملية تحريرها بعد، وآن الأوانُ الآن لتحقيق "الاستقلال الاقتصادي" وأن توضَع هذه المهمَّة العاجلة على رأس سلمّ الأولويات. 

الشروق الجزائرية
0
التعليقات (0)