يواجه تنظيم الدولة الإسلامية تحديا كبيرا يهدد بانحسار سيطرته المكانية على صعيد الجغرافيا العراقية إذ يصعب المحافظة على مساحات ممتدة وكتل سكانية حضرية في ظل تحالف كوني بقيادة الولايات المتحدة وجيوش ومليشيات وقوات أمن محلية لكن ما هو مؤكد أن إيديولوجيا تنظيم الدولة الإسلامية تحقق نجاحا وتتمدد وتتجذر على نطاق واسع في عالم عربي سني يشعر بالتهديد والاقتلاع والإذلال وتتضاعف تلك المشاعر في الحالة العراقية مع إصرار المقاربة الأمريكية على التركيز على الجوانب المادية العملياتية بالحفاظ على صيغة عراق ما بعد الاحتلال حيث تهيمن المكونات المذهبية الشيعبة على مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية ويعطى الأكراد امتيازات إقليمية سيادية حد الطموحات الاستقلالية بينما يعيش السنة على هوامش وفتات العملية السياسية في سياق حالة من الخوف والرعب وعدم الأمان.
في ظل هيمنة المقاربات العسكرية والأمنية بالتعامل مع المسألة السنية في العراق فإن مستقبل إيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية يبدو واعدا حيث تتعاظم الأصوات المؤيدة للتنظيم في الوسط السني لاعتقادهم أن التنظيم يدافع عن قضية عادلة تتوافر على حقيقة ماثلة ومسارات تاريخية ساطعة إذ لم يكن صعود تنظيم الدولة الإسلامية اعتباطيا وخطأ تاريخيا ومصادفة بل نتاج بروز إيديولوجية احتجاجية سنيّة غاضبة لما آلت إليه أحوال العرب السنة في العراق من إقصاء وتهميش وإذلال منذ إحتلال العراق ومع فساد العملية السياسية وغياب النخب السنية المسؤولة وضعف الدعم العربي والإسلامي بات التنظيم يمثل أملا للمقهورين والمهمشين كدرع واق لهوية سنية مهددة في وجودها ومستقبلها.
إيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية تعززت على وقع الانتهاكات الممنهجة لحقوق سنة العراق والتي تتزايد دون أدنى محاسبة وبتواطؤ دولي فاضح فقد تغاضت الولايات المتحدة عن جرائم المليشيات الشيعة بحق السنة بصورة فاضحة تحت ذريعة القضاء على "إرهاب" تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي شجعها على ارتكاب سلسلة من المجازر والجرائم ضد السنة. ففي 22 آب/ أغسطس 2014 قتل مسلحو إحدى الميليشيات الشيعية 68 مصليا سنياً في مسجد مصعب بن عمير في محافظة ديالى، كما أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الانسان تقريرا اتهمت فيه ميليشيات شيعية مدعومة من حكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي بخطف عشرات المدنيين السنة واعدامهم، وعندما بدأت الولايات المتحدة ضرباتها الجوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في 8 آب/ أغسطس 2014 صمتت عن توجيه أي انتقاد لممارسات المليشيات الشيعية الدموية والتي ترتبط بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الايراني أو رجل الدين مقتدى الصدر أو أحزاب شيعية أخرى مهيمنة على الحكومة، وكانت هذه المجاميع قد تضخمت بعد الغزو الاميركي للعراق عام 2003 وشكلت تحت نظر الولايات المتحدة "فرق موت" ضد السنة خلال أعمال العنف الطائفي في 2006- 2007.
سياسات التهميش والإقصاء والانتهاكات الممنهجة حولت العراق إلى دولة مليشيات إثنية وطائفية برعاية أمريكية إيرانية. وعندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014 لم تلتفت دولة المليشيات ورعاتها إلى جذور الأزمة السنية ومأساة السنة وأصرت على الرواية الإرهابوية وبدلا من التوجه نحو سياسة تقوم على الاعتراف بالمطالب السنيّة العادلة، انحدرت نحو مزيد من سياسات الهوية الطائفية، حيث دعا رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي علناً إلى إقامة ميليشيات شيعية، الأمر الذي استجابت له المرجعية الشيعية العليا بزعامة السيستاني بالإعلان عن فتوى "وجوب الجهاد الكفائي"، الأمر الذي أسفر عن ولادة قوات الحشد الشعبي (الشيعي)، وبدت الاستعراضات الطائفية مشهدا مألوفا لكافة التيارات الشيعية، بحجة حماية المراقد المقدسة، وعملت أذرع إيران على إعادة انتشار قواتها التي تقاتل في سوريا وعودتها إلى العراق كما فعلت "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق"، وتعمل هذه المليشيات بشكل وثيق مع الجيش العراقي و"قوى الأمن الداخلي"، وهي قوات تعتمد على المكون الشيعي، وقد ظهرت مليشيات شيعية جديدة عديدة بحجة "الدفاع عن العراق"، ومنها "سرايا الدفاع الشعبي"، كما أنشأت "عصائب أهل الحق" و"منظمة بدر" العديد من "اللجان الشعبية" المتمركزة في المدن، وأصبح قائد "الحرس الثوري" الإيراني قاسم سليماني يقود المليشيات الشيعية المتعددة الجنسيات بصورة علنية، ولم تعد الأجندة الطائفية لإيران خفية.
عقب تشكيل أمريكا للتحالف الدولي في أيلول/ سبتمبر 2014 لم تعمل على معالجة الأسباب الحقيقية لصعود الدولة الإسلامية وباتت منشغلة بتشكيل تحالفات خارج المكونات السنية وعلى الرغم من التصريحات الأمريكية المعلنة باستبعاد إيران من التحالف الدولي لمواجهة تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنها تعترف بدور إيران الأساسي وتتحالف معها موضوعيا، فقد شاركت بإيران بشكل مباشر في معركة آمرلي وأدارت اربع ميليشيات على الأقل، وهي فيلق بدر الذي أنشأته ايران في الثمانينات وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا السلام، وهي نسخة معدلة من جيش المهدي بقيادة الصدر، كما ساهمت في شرعنة ميليشيات الحشد الشعبي الذي حظي بدعم السلطات العراقية وقدّمت له الدعم المالي والأسلحة بل واعتُرف به رسمياً في شباط/ فبراير 2016، كجزءٍ من القوات المسلحة العراقية.
لفقد تحول العراق إلى دولة مليشيات شيعية طائفية برعاية أمريكية وتبدو مشاركة بعض السنة في العملية السياسية مجرد اكسسوار لا قيمة له فعليا، فمن تكريت إلى ديالى إلى الرمادي إلى الفلوجة فالموصل لا نجد سوى القتل والحرق والانتهاك والتطهير للسنة دون خجل أو وجل، فقد نفذت المليشيات الشيعية بشكل ممنهج عملية تغيير ديمغرافي وتطهير مكاني تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وقد تضمنت سياسات التطهير الطائفي الممنهج طرد العراقيين السنّة وتوطين آخرين في مناطق جرف الصخر والسعدية وبلد والإسكندرية والبحيرات والجنابيين والمحمودية وفي قرى أبو غريب والطارمية وسامراء وبعقوبة والمقدادية والخالص وشهربان ومندلي، ومناطق أخرى، ونفذت مليشيات الحشد الشيعية أكثر من 10 آلاف عملية إعدام ميدانية بحق عراقيين مدنيين من السنة لأسباب طائفية، فضلاً عن تفجير وتدمير عشرات المساجد السنية.
إيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية مرشحة للنمو والتمدد والازدهار في ظل عمليات التطهير والانتهاكات والقتل لسنة العراق فبحسب أبحاث منظمة العفو الدولية فإن جرائم حرب، وغير ذلك من الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان قد ارتُكبت على أيدي الميليشيات ذات الأغلبية الشيعية والقوات الحكومية إبّان عمليات استعادة الفلوجة والمناطق المحيطة بها من تنظيم "داعش"، في مايو ويونيو 2016، ففي إحدى الحوادث التي تبعث على الصدمة أُعدم خارج نطاق القضاء ما لا يقل عن 12 رجلاً وأربعة فتية من عشيرة "الجميلة" كانوا قد فروا من السجن شمالي الفلوجة عقب تسليمهم أنفسهم إلى رجال يرتدون الزي العسكري وزي الشرطة الاتحادية في 30 مايو حيث فصل الرجال والفتيان عن النساء والأطفال الأصغر سناً قبل أن يُصفى هؤلاء ويطلق عليهم الرصاص وكان قد اختُطف ما لا يقل عن 73 آخرين من الرجال والفتيان المنتمين للعشيرة نفسها قبل بضعة أيام، وما زالوا في عِداد المفقودين، كما اختطفت الميليشيات رجالاً وفتياناً من قبيلة المحامدة كانوا قد فروا من الصقلاوية؛ إحدى البلدات الأخرى شمالي مدينة الفلوجة وعذبتهم وقتلتهم وفي 3 يونيو قُبض على نحو 1300 رجل وفتى وبعد ثلاثة أيام نُقل ما يربو على 600 منهم إلى حجز المسؤولين المحليين للأنبار، وعلى أجسادهم آثار التعذيب.
في تقريرها الأخير اتهمت منظمة العفو الدولية القوات العراقية والحشد الشعبي والبيشمركة بارتكابهم جرائم حرب وانتهاكات خطيرة ضدّ السُّنَّة في العراق وبمباركة أمريكية واستند التقرير إلى شهود عيانٍ بلغ عددهم أكثر من 400 شخص تحدّثوا عمّا شاهدوه من جرائم ويسلط التقرير الضوء على الهجمات الانتقامية والتمييز على نطاق واسع اللذين يواجههما العرب السُّنَّة ممّن يُشتبه في تواطؤهم مع تنظيم الدولة أو بأنهم يدعمونه؛ إذ نزح عديد منهم في أثناء العمليات العسكرية الرئيسة التي شهدتها البلاد في 2016، بما في ذلك في الفلوجة والمناطق المحيطة (محافظة الأنبار)، وفي الشرقاط (محافظة صلاح الدين)، والحويجة (محافظة كركوك)، وفي محيط الموصل (محافظة نينوى)، وخلصت لجنة تحقيق محلية شكّلها محافظ الأنبار إلى أن 49 شخصاً ممّن أُسروا من الصقلاوية لقوا مصرعهم - إما بإطلاق الرصاص عليهم أو بإحراقهم وتعذيبهم حتى الموت - وإلى أن 643 شخصاً آخر ما زالوا في عِداد المفقودين، وأعلنت الحكومة أن تحقيقات فُتحت في الحادثة، وأن عمليات توقيف قد تمّت، لكنها لم تكشف النقاب عن أيِّ معلومات تفصيلية بشأن ما جرى التوصل إليه من معطيات، أو الأشخاص الذين جرى توقيفهم.
ليست الانتهاكات وأعمال القتل الجماعية بالقرب من الفلوجة مجرد حوادث معزولة بأيّ صورة من الصور ففي مختلف أرجاء البلاد اختفى قسراً آلاف الرجال والفتيان السُّنَّة الذين فروا من المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على أيدي قوات الأمن العراقية والميليشيات واختفى بعضهم عقب تسليم أنفسهم للقوات الموالية للحكومة أو القبض عليهم من منازلهم ومخيمات النازحين داخلياً أو عند حواجز التفتيش أو في الشوارع، وطبقاً لأحد أعضاء البرلمان المحليين اختَطفَ أعضاء في كتائب "حزب الله"، وأخفوا قسراً ما يصل إلى 2000 رجل وفتى عند نقطة تفتيش الرزازة، التي تفصل بين محافظتَي الأنبار وكربلاء، منذ أواخر 2014.
تشير التقارير إلى أن قوات الأمن العراقية وقوات الأمن الكردية والميليشيات الموالية لكل منهما مسؤولة عن أعمال نهب وتدمير ممتلكات خاصة بالعرب السنة، وقد قال مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة إن هناك تقارير عن انتهاكات متزايدة لحقوق الإنسان ضد العرب السنة في المناطق المحررة من سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، كما توجد تقارير عن طرد قسري من المنازل واختطافات واحتجازات بصورة غير قانونية وفي بعض الحالات عمليات إعدام دون محاكمات قضائية، وقالت سيسيل بويي المتحدث باسم المفوضية العليا لحقوق الانسان "كما يواجه العرب السنة تمييزا متزايدا ومضايقات وعنف من الجماعات العرقية والدينية الأخرى التي تتهمهم بدعم تنظيم الدولة الإسلامية".
أما منظمة "هيومان رايتس ووتش" فقد أصدرت عدة تقارير حول عمليات القتل والتطهير والانتهاكات التي تمارس ضد السنة وفي تقريرها الأخير كشفت عن الانتهاكات التي ارتكبتها ميليشيات عراقية موالية لإيران في منطقة المقدادية شرقي بغداد من خلال سلسة شهادات توثق عمليات قتل وخطف عشرات المدنيين السنة، وتحدثت المنظمة الحقوقية إلى مدنيين قتل أو خطف أقربائهم على يد الميليشيات الشيعية أو حتى تعرضت منازلهم للنسف في المقدادية بمحافظة ديالي، وذلك عقب تفجيرين قتل فيهما 26 شخصا في 11 كانون ثاني/ يناير الماضي، وقالت المنظمة الحقوقية إن مسلحي منظمة بدر وعصائب أهل الحق وهما من الجماعات الرئيسية في "الحشد الشعبي" يتحملان المسؤولية عن هجمات انتقامية وصفتها بأنها تمثل "انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي" حيث أقدمت الميليشيات على خطف وقتل العشرات من "السنة المقيمين" في المقدادية، بالإضافة إلى هدم "منازل ومتاجر ومساجد سنية".
خلاصة القول أن تنظيم الدولة الإسلامية قد ينحسر جغرافيا على المدى القريب لكنه سيتمدد إيديولوجيا على المدى الأقرب ذلك أن الانتهاكات والجرائم الممنهجة بحق سنة العراق على يد الحكومة الطائفية والمليشيات الشيعية والبيشمركة الكردية وبتواطؤ أمريكي لن تتراجع تحت ذريعة حرب الإرهاب وسوف تكون الموصل أحد خطوط انفجار الهوية السنية في العراق فالمعركة الدائرة ستأخذ بعدا أكثر عنفا وأشد هولا وستتكبد القوات المهاجمة خسائر كبيرة حيث تبدأ عمليات الانتقام الدولية عموما والأمريكية خصوصا من الجو وتمارس المليشيات الشيعية هوايتها بقتل السنة على الأرض كما أكد على ذلك زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي الذي قال بأن معركة الموصل "انتقام وثأر لقتلة الحسين لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد".