إنه مهند المصري لا التركي، وإن كان لديه هو الآخر عشقه الخاص ومأساته المختلفة، عشق مصر ومأساة شبابها المتطلع لمستقبل أفضل، والمقموع في سعيه هذا.
«لسه عاوزة كام مهند يا بلد كي تطهري من الظلم اللي عايش فيكي؟!!»… «مصر فيها 40 مليون مهند، شباب بيموت وهو حي!!»… «مهند مات، وكل يوم هيموت مهند، في المركب، في المعتقل، في الجامعة، في القطار»… بعض من التعليقات التي كتبت على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة في أعقاب وفاة مهند إيهاب الذي أكمل نهاية أيلول / سبتمبر الماضي عقده الثاني، هذا الشاب الإسكندراني الذي أعتقل في عهد السيسي ثلاث مرات من بينهم اثنان وهو قاصر. مات وحيد أمه وأبيه في نيويورك بعد أن هزمه سرطان الدم الذي أصيب به في السجن الذي عانى فيه الإهمال والتقصير فلم يفرج عنه للعلاج إلا بعد أن تمكن منه المرض بالكامل تقريبا.
وضع له أحبابه ست صور شخصية على مواقع التواصل من عام 2011 إلى 2016، اعتبروها تأريخا له ولـ«حال مصر سنة بعد سنة»: عام 2011، وكان عمره 14 عاما، ضحكته تجسد انتصار الثورة على الاستبداد وبداية التفاؤل بالمستقبل، 2012 ابتسامة الواثق بأن مصر تتغير، 2013 بداية النكسة فهو مكبل في سرير بالمستشفى، 2014 الشاب المنهك الذي تمكن منه المرض، 2015 على عكاز حالق الشعر وإن كان في نظرته صبر وتحد، 2016 على فراش المرض والموت في نيويورك.
مهند أو «نحلة» كما اشتهر بين أصدقائه أحد شباب مصر الذين آمنوا بالتغيير وانخرطوا فيه بكل همة الشباب، وحتى طيشه، لكنه جوبه بكل تحبيط المعنويات وكسر الإرادة. عشق الكاميرا والتصوير، لم يكن طبعا بتلك الشخصية التي تجرى معها المقابلات الشخصية لكنه مع ذلك كان لموقع «المرصد» المصري لقاء مطول معه سرد فيه تجربته الثرية رغم صغر سنه. ومن خلال بعض هذه الاقتباسات يمكن أن نقف على مدى الظلم الذي يمكن أن يلحقه بلد بحجم مصر بشباب يفترض أنه هو سلاحها الأقوى للخروج من التخلف والفقر والتبعية. يقول مهند:
«(…) والدي ووالدتي موجودان معي هنا في نيويورك، والدي حاليا لا يعمل لأنه يفضل أن يكون معي، والدتي أيضا كذلك (…). خلال ثورة يناير، كنت في الصف الثاني الإعدادي ولم يكن موضوع السياسة يشغلني وقتها، ولكني كنت أرى أن هناك حاجة خطأ في البلد، ولكن ماهي لم أكن أعرف، كنت أرى أن هذا الرجل ـ مبارك ـ ظالم وكنت أسمع الأخبار وكلام أهلي بالإضافة إلى كلام الناس في الشارع. عندما حدثت واقعة مقتل خالد سعيد كانت هذه هي البداية الأهم، بدأت أبحث أكثر، وكنت ما زلت صغيرا، ولكني عرفت وقتها معني أن يكون هناك شخص يقتل شخصا آخر ظلما (…) كانت أول مظاهرات ثورة يناير التي أشارك بها، ولكنها لم تكن أول مظاهرات في حياتي حيث كنت أشارك في مظاهرات نصرة غزة (…) بدأت اهتم بالسياسة فعلا من وقتها، فبعد أن رجعت إلى البيت يوم 28 يناير بدأت أفكر وبدأت في تفعيل حسابي على الفيسبوك وتويتر ومتابعة بعض الأشخاص والقراءة لهم.
و{ بعد سقوط مبارك} كنت ضد المجلس العسكري وقتها وضد طنطاوي، ولكن كان هناك ناس كثيرون ممن أعرفهم وأكبر مني سنا ضدي في هذه النقطة، وكانوا يحاولون إقناعي بأن الجيش كويس (…) في انتخابات 2012 لم يكن لدي وقتها صوت انتخابي، وكنت فقط أتابع وأتفرج، وكنت سعيدا جدا، كان الموضوع مبهجا وقتها، أن الناس تنتخب أخيرا، كنت قد بدأت أتابع السياسة بالفعل ووجدت أنه لم يكن أحد من الشعب قد انتخب قبل ذلك تقريبا، وأخيرا البلد تغيرت، وأيا كان من سيأتي ولكنه سيأتي بالانتخابات الشعبية (…).
ويواصل مهند بكل براءة الأطفال تقريبا أنه في مظاهرات 30 حزيران/يونيو 2013 «لم أكن قد قررت يومها فعلا أنا مع أي ناحية، ولم أكن أستطيع أن أقرر، ولكني شاهدت ناس كثيرة نازلين يطالبون بأشياء غريبة، وبعضهم نازل مش عارف هو نازل ليه من الأساس، وبعضهم نازل عشان يرجع النظام القديم أصلا، فكانت هناك شوية لخبطة كثيرة، وكان في ناس فعلا نازلة لأنهم لا يعجبهم النظام ويريدون تغيره، ويعتقدون أن التغيير سيكون أفضل، فكان هناك كل الأصناف تقريبا».
تحدث مهند في هذا اللقاء عن الوثيقة بالتفصيل الدقيق، عن كل ما جرى له خلال لاعتقال والتحقيق والسجن والاعتداء عليه من قبل البلطجية واعتصامات الإسكندرية والقاهرة، وخاصة اعتصام رابعة العدوية. لم ينس أن يقول: «الآن كل أصدقائي إما معتقلون، أو مغتربون بسبب السياسة أو مطاردون داخل مصر»، أما هو فلم يصبح أيا منهم… لقد صار بين يدي ربه الرحمن الرحيم اللطيف بعباده.