مقالات مختارة

تسليط للقضاء على القضاء

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
ما لقيت باحثا له صلة بالقانون في مصر إلا ووجدته مصدوما بسبب ما يجري في ساحة القضاء، خصوصا ما تعلق منه بمخالفة الدستور وانتهاك نصوصه. وهو ما اعتبره أغلبهم جرأة تشوه قيم العدالة، وتترك آثارا سلبية غائرة يتطلب علاجها عقودا في المستقبل. لديهم نماذج عدة يستشهدون بها، لكن أكثر ما أزعجهم وأدهشهم كان القرار الأخير لمحكمة الأمور المستعجلة بوقف تنفيذ حكم مجلس الدولة الخاص ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية واعتبار ذلك الحكم منعدما. 

مصدر الانزعاج والدهشة أن ثمة نصا صريحا في الدستور تمت مخالفته والعصف به؛ لأن محكمة القضاء المستعجل لا ولاية لها على الموضوع، وممنوعة بنص الدستور من التصدي لأحكام مجلس الدولة. وهو ما يعني أن اختصاص تلك المحكمة الأولى منعدم ولم يكن لها أصلا أن تنظر في القضية. المادة 190 من دستور عام 2014 نصت على أن: مجلس الدولة جهة قضائية مستقلة يختص دون غيره (ضع خطا تحت دون غيره) بالفصل في المنازعات الإدارية ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه..إلخ. وهذا النص الصريح الذي أضيف لأول مرة على الدستور يعني أنه ليس للقضاء المستعجل أو أي قضاء آخر مدني أو جنائي أو دستوري أن يفصل في المنازعات الإدارية. كما يعني أن الجهة الوحيدة التي لها ذلك هي المحكمة الإدارية العليا، وما جرى في شأن إبطال حكم معاهدة ترسيم الحدود، لا يعد عدوانا على نص الدستور فحسب ولكنه نوع من اغتصاب سلطة المحكمة العليا المختصة.


قال لي أحد أساتذة القانون إن طالب السنة الثانية بكلية الحقوق إذا ردد ما ذكرته محكمة القضاء المستعجل في حيثياتها لاستحق الرسوب على الفور، وقال آخر إن ما جرى وضعنا أمام مفارقة مثيرة خلاصتها أن جهة منعدمة الولاية، أصدرت حكما منعدما قضى بانعدام حكم آخر، وهي حالة سريالية غير مسبوقة.


هذا الذي قرره الدستور الأخير في المادة 190 جاء تقنينا لما استقر في الفقه القانوني المعمول به، وهو ما أثبته الدكتور محمد علي راتب الذي يوصف بأنه أبو القضاء المستعجل، (له كتاب شهير في الموضوع من جزأين)، إذ قرر أن قاضي الأمور المستعجلة يعتبر فرعا من فروع جهة القضاء العادي، ومن ثم فحين تخرج المنازعة الموضوعية عن ولاية هذه الجهة، فإن شقها الحاد المستعجل يخرج بالتالي عن اختصاصه، بحسبانه فرعا يتبع هذه الجهة وينبثق عنها، (ص 862 من الجزء الثاني لمؤلفه قضاء الأمور المستعجلة).


إن قاضي محكمة الأمور المستعجلة الذي لم يكن له أن ينظر القضية أصلا لم يكتف بوقف تنفيذ حكم محكمة مجلس الدولة، لكنه حكم في الموضوع واعتبر الاتفاقية من أعمال السيادة التي تتميز بعدم خضوعها لرقابة القضاء عموما. وهو الشق الذي فنده ورد عليه حكم القضاء الإداري، الأمر الذي ما كان لجهة أن ترده سوى المحكمة الإدارية العليا. وبتصدي القاضي الجزئي للموضوع، فإنه اغتصب حق الإدارية العليا في نظره. يلفت النظر في هذا الصدد إلى أن القاضي المذكور نسب إلى محكمة مجلس الدولة أنها تغولت على اختصاصات السلطة التنفيذية، في حين أن ما أقدم عليه لم يتغول به فقط على حق الإدارية العليا، لكنه تغول على نص الدستور ذاته.


في رأي الأستاذ خالد علي، المحامي ورئيس هيئة الدفاع عن مصرية الجزيرتين، أن ما جرى كان التفافا على الدستور لم يكترث بانتهاك المادة 190، أريد به أن ينتهي الأمر إلى ما وصلنا إليه، حيث يصدر حكمان متناقضان مسلط فيه قضاء على قضاء آخر، لكي يتحول الأمر في النهاية إلى نزاع قانوني، يعرض على المحكمة الدستورية العليا، وبذلك ينسى الشق السياسي في الموضوع، ويصبح مجرد جدل فقهي حول أعمال السيادة وحدودها.
1
التعليقات (1)
محمد الدمرداش
الخميس، 06-10-2016 09:57 م
هلامية الدولة ............ أن دولة حكم الفرد أو دكتاتورية طبقة أو ذات صبغة عسكرية دولة لا تعرف مؤسسات و لا يوجد فيها توصيف أو حيثيات أداء لأى مؤسسة و لا قوانين أو دساتير ترسم شكل المؤسسات و محددات فعالياتها مستقلة منفصلة عن باقي مؤسسات الدولة هذا فضلاً عن ان المؤسسة ذاتها لا يفصل بين أقسامها العاملة بل يتسيدها الفوضى التي تتيح للفرد الحاكم و الدكتاتورية أو العسكر توظيف تابعيهم في هذه المؤسسة أو تلك للقيام بمهام محددة في أزمنة بعينها طبقاً لرؤية أنية للمتغيرات في الأحداث داخل الدولة . و لأن مصر دولة من هذه النوعية الهلامية فلا عجب في أن ترى القضاء كله من الألف إلى الياء يجسد حالة اللاحيثية و اللامنطقية نظامية فيمكن أن تجد ثغرات قانونية في بعض مواد القانون تلغى و تبطل فاعلية مواد أخرى و تجد محكمة غير ذات اختصاص تلغى حكم صادر عن محكمة ذات اختصاص و من العيوب الظاهرة للمواطن العادي أن محكمة أول درجة يمكن ألغاء حكمها في الاستئناف أو النقض و الأبرام مما يوحى بأن ليس كل القضاة على نفس الدرجة من الألمام بصحيح القانون و الإجراءات و أن هذه المؤسسة ذات الخطورة المؤثرة على استقرار المجتمع و أشعاره بسريان العدل وجودها يضر أكثر مما ينفع و هذا كله بسبب هلامية الدولة .