كان من المتوقع والطبيعي أن تختلف المواقف بين موافق ومبرر ورافض ومندد إزاء مشاركة أي وفد فلسطيني، فكيف حين يكون الرئيس محمود عباس على رأسه في تأبين أحد شيوخ السياسة الإسرائيلية، ونقصد صاحب الألقاب والمراكز المتعددة شمعون بيريس؟
في جوهره، فإن حدث المشاركة في التأبين يعكس الخلاف والاختلاف الحاد والحدي الذي يسود الحالة الفلسطينية انطلاقا من البعد السياسي، فكيف حين يكون هذا الخلاف على شكل انقسام ممأسس حال دون إنهائه جولات وصولات من الحوارات العبثية، والوساطات التي تعكس حسابات أوسع من فلسطين؟
على أن الخلاف إزاء مشاركة الرئيس محمود عباس لم تتوقف على المعارضين سياسيا، أو المنخرطين في المسؤولية عن الانقسام الفلسطيني، إذ اتسعت لتشمل قيادات وكوادر من حركة فتح، والسلطة، ولو قيّض لآخرين لأن يعبّروا عن مواقفهم دون خوف من العقاب، لكانت ردود الفعل أوسع مما عكسته وسائل الإعلام.
بعيدا عن ظواهر التصيُّد واستغلال الأحداث والمواقف، فإن حسابات الربح والخسارة، حتى استنادا إلى برنامج التسوية، لا ترجّح بأنه كان على الرئيس أو أي وفد فلسطيني أن يشارك في تأبين شخصية مركزية من مستوى شمعون بيريس.
إذا وضعنا جانبا العواطف والأبعاد الشخصية، وهي في حالة العمل السياسي لا يمكن أن تنحصر في أبعادها الشخصية، فإنه لن يتبقى من آثار هذه المشاركة سوى الغضب السياسي من قبل أطراف فلسطينية كثيرة، وإصرار إسرائيل على مواصلة سياساتها المعروفة التي تتسم بالعنصرية والعدوانية والتوسع.
لم تصل رسالة المشاركة إلى المجتمع الإسرائيلي؛ ففي آخر استطلاع للرأي نشرته صحيفة «معاريف» بعد يومين من طقوس عملية التشييع، جاء أن 64% من الإسرائيليين لا يتوقعون وربما لا يؤيدون إقامة سلام على أساس رؤية الدولتين.
أما على الصعيد الرسمي، فقد تضاف رسالة المشاركة الفلسطينية إلى الكثير من المواقف والرسائل الموجهة للمجتمع الدولي، ومفادها أن أزمة السلام والمفاوضات وأسباب تعطلها لا تعود إلى السياسة الفلسطينية، وإنما هي حصريا مسؤولية الطرف الإسرائيلي.
تبدو هذه الرسالة ضعيفة بالقياس لسياسة فلسطينية لم تتوقف عن نزع الذرائع الإسرائيلية والموالية لها، واتخذت أشكالا أكثر من واضحة على أن الفلسطينيين مستعدون لأن ينخرطوا في عملية سلام مجدية، يسعى وراء تحقيقها المجتمع الدولي.
رسميا تجاهل رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو حضور الرئيس عباس، خلال خطاب التأبين لشمعون بيريس، الذي لا يمكن الفصل بين شخصيته ودوره المديد الذي رافق قيام دولة إسرائيل ونكبة الفلسطينيين، حتى مواراته التراب نهاية الشهر الماضي.
خلال هذا التاريخ الطويل، كان لبيريس دور مركزي في السياسة الإسرائيلية سواء من خلال حزب العمل، أو من خلال دوره في مواقع رسمية مهمة.
صحيح أن كل شيء قابل للمراجعة، بما في ذلك تاريخ العداء، والكراهية، وما وقع من جرائم بحق الفلسطينيين، لكن مثل هذه المراجعة، مرهونة بالنتائج، والنتائج التي يحصدها الفلسطينيون لا تبرر مثل هذه المراجعة.
بيريس أب المشروع النووي الإسرائيلي، ومجزرة قانا والكثير من السياسات الإجرامية، كان هو الذي تسلّم الراية بعد اغتيال إسحق رابين نهاية العام 1995، وبدلا من أن يواصل مسيرة الالتزام ببنود اتفاقية أوسلو، وفق استحقاقات جداولها الزمنية، بادر إلى وقف الالتزامات المترتبة، قراءة بيريس في حينه لأبعاد اغتيال رابين، جعلته يتردد في الذهاب قدما على الطريق الذي رسمه مع رابين، وآثر في مواجهة اليمين أن يذهب في عدوان واسع على لبنان، ارتكبت خلاله قواته مجزرة قانا التي راح ضحيتها أكثر من مئة مواطن لبناني وعدد كبير من الجرحى.
انتهى بيريس بفوز نتنياهو في انتخابات العام 1996، ومنذ ذلك الوقت تراجع دور حزب العمل، وتراجع دور بيريس في الحياة السياسية، ولم يعد يصلح حتى كمبشر ومحرض لصالح السلام، وتحول إلى «حكيم» صهيوني، يقبل بأن ينفذ أدوارا لصالح المستخدم اليميني.
وفي الحساب، أيضا، فإنه لا يمكن القبول بفكرة ربح الآخرين هذا لو كان هناك ربح مع خسارة أهل البيت والأشقاء، واعتقد أنه وفق حسابات الربح والخسارة، فإن المشاركة الفلسطينية في تأبين أحد أعمدة المشروع الصهيوني، تشكل خسارة صافية في وقت تزدحم فيه الأزمات، وتتضخم فاتورة الخسائر التي يتكبدها الفلسطينيون.
أما أن يدخل الحساب في خانة التخوين، فهذا يضيف إلى الخسائر المزيد منها.