محمد أخلاق لم يكن بطلا قوميا أو سياسيا محنكا ولا رياضيا كبيرا أو ممثلا معروفا أو غيره من "أعلام" العالم الذين تتناقل الكاميرات جنازاتهم وتحتفل بذكراهم ويتسابق الأفاقون لذكر مناقبهم. محمد أخلاق مجرد مزارع بسيط من قرية بيسارا في ولاية أوتار باراديش الهندية وكانت خطيئته: أكل لحم البقر.
في 29 سبتمبر من العام الماضي، هاجمت مجموعة من الهندوس بيت محمد أخلاق واعتدوا على أمه العجوز قبل أن يسحلوه خارجا ومعه ابنه لتبدأ "حفلة" الركل والرفس والضرب حتى فارق الحياة تاركا ابنه في حال خطرة بين الحياة والموت. كانت عائلة المتوفى واحدة من اثنتين تقطنان حيا بغالبية هندوسية أعلن كاهن المعبد الذي تتبعه أن العائلة المسلمة قامت بذبح أبقار وتخزين لحومها. وكان ذاك الإعلان كافيا لاستثارة مشاعر المؤمنين بـ"ألوهية" البقر والذين تمت تنشئتهم في مناخ من العداء والكراهية "الدينية" فانتقموا لـ"ربهم" قبل أن يعودوا لديارهم سالمين.
في ولاية أوتار باراديش، كما كثير من ولايات "أكبر ديمقراطية" في العالم، ذبح الأبقار جريمة يعاقب عليها القانون إن لم يسبقه "الغوغاء" إلى الثأر. أما قتل المسلمين فمجرد "حادث مؤسف وغير مرغوب فيه" كما علق رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي على الواقعة بعد صمت دام أياما عديدة.
كانت المفاجأة أن مختبرا رسميا خلُص إلى أن اللحم الذي أكله المغدور كان لحم ماعز، وليس للماعز أتباع يعبدونه وينتقمون له. المفاجأة الأكبر كانت في رفع دعوى قضائية ضد ما تبقى من عائلة "أخلاق"، عشرة أشهر بعد مقتله، استنادا إلى تحليلات مضادة لبقايا لحم وجدت في صندوق قمامة قرب البيت والعقوبة المنتظرة سبعة أعوام وراء القضبان.
في الهند كما في كثير من دول العالم "الحر"، تنهزم الديمقراطية دوما أمام الدين والعرق، ويعلو صندوق القمامة على رمزية صندوق الانتخاب.
بي كي (العنوان العربي: سكران)، للمخرج راجكومار هيراني، إنتاج 2014.
بي كي كائن فضائي بهيئة إنسان، حطت به سفينته الفضائية بولاية راجستان الهندية، سُرِقت منه قلادته ووسيلته الوحيدة للعودة إلى كوكبه الأصلي. وفي خضم بحثه عن القلادة، يعيش حياة تيه بين تناقضات الهند "الدينية" مما يدفع به إلى رحلة بحث أعمق عن "الله". وبعد أن تمكن منه التعب تنقلات بين الولايات وممارسة للطقوس "الدينية" المختلفة، يقف بين التماثيل المجسدة لأديان الهند حائرا يناجي إلهه "المختفي".
بي كي: أين أنت يا الهي؟ لابد أنني قمت بشيء خطأ يجعلك لا تسمع شكواي. من فضلك أخبرني وأرني الطريق الصحيح .. سأركع وأسجد أمامك وسأدق الجرس من أجلك.. وسأتحدث في مكبر الصوت أيضا.. لقد قرأت كتاب جيتا والقرآن والإنجيل. كل مدرائك يقولون أشياء مختلفة عن بعضهم.. أحدهم يقول إن الأضحيات تذبح يوم الاثنين والآخر يقول يوم الثلاثاء. أحدهم يقول إن الصلاة قبل شروق الشمس والآخر يقول بعد الغروب.. أحدهم يقول إن الماشية يتم عبادتها والآخر يقول إنها تذبح كقربان. أحدهم يقول اذهب للمعبد دون ارتداء حجاب والآخر يقول اذهب للكنيسة بالحذاء .. من على خطأ ومن على صواب؟ أنا لا أفهم شيئا.. لقد جئت إلى هذا العالم بالخطأ وأريد أن أعود إلى منزلي..
محمد أخلاق، ضحية لـ"المديرين" المتاجرين بـ"أديان" وضعية تحولت لمجرد شركات استثمار لسرقة مدخرات الفقراء. لكل طائفة معابدها، ولكل معبد صندوق تبرعات، ولكل خدمة "إلهية" مقابل مادي وقرابين. محمد أخلاق ليس حالة فردية في ظل هذا الصراع المحموم على استقطاب الأتباع والسيطرة على عقول المريدين. فتغلغل المعابد أقوى من أن يؤثر فيه استنكار أو استهجان أو حتى إدانة محلية كانت أو دولية. فالأتباع الموزعون على طول البلاد وعرضها خزان انتخابي لا يتحرك إلا بوازع "ديني"، وسيطرة الكهنة على العقول، مهما بلغت درجة تعلمها، أمر لا جدال فيه.
أمام جهاز الكومبيوتر يجلس والدا (جاجو)، الفتاة الهندية التي تدرس ببلجيكا، يستمعون إليها عبر تطبيق سكايب.
جاجو : اهدأوا... سأخبركم كل شيء... سارفراز.
الأب (حائرا) : هل هو مسلم؟
جاجو : نعم يا أبي. إنه يدرس الهندسة المعمارية لكن عائلته باكستانية.
الأم: باكستانية؟ ما الذي تقولينه؟ سيجعلك ترتدين الحجاب وترددين التواشيح، هل جننت؟
الأب: جاجو، ابقي مكانك ولا تقطعي الاتصال. سأركب سيارتي بسرعة.
الأب (وهو يجري خارج البيت والهاتف بيده): لقد حدثت كارثة، أغثنا يا تاباسيوا..
على صور الوالد وهو يجوب الشوارع في اتجاه المعبد ومشاهد من ذكريات الطفولة والصبا، نسمع تعليقا خارج الصورة لجاجو.
جاجو : أنا أعلم أين سيذهب والدي. منذ الطفولة ونحن نرى وجه تاباسيوا أكثر من رؤية وجوه والدينا. من حقيبة المدرسة إلى حائط الحمام. لقد كان في كل مكان. لم يكن أبي يذهب إلى طبيب الأسنان قبل أن يأخذ مشورته وموعد الذهاب. لقد قدم تاباسيوا لوالدي حقيبة بها عدة آلهة كلا منها لمناسبة ومهمة مختلفة. عندما كان يتداول الأسهم بالبورصة كان يوجه تمثال الإلهة (لاكشمي) إلى الشاشة مباشرة. وعندما كان يمارس التمارين الرياضية كان يضع بجانبه تمثال الإله (هانومان جي). الصلاة عبر الانترنت، الاستبصار الميمون والدعاء عن طريق البريد السريع كلها كانت أفكار (تاباسيوا).
يصل الوالد إلى المعبد ويضع جهاز الكومبيوتر بقرب أرجل الكاهن تاباسيوا.
الأب: جاجو، إلمسي قدميه لتأخذي البركة.
تفعل جاجو من وراء جهازها المحمول على بعد آلاف الأميال.
الكاهن: لماذا؟ لماذا تريدين الانتحار يا جاجات جانيني؟ اجلبي ورقة وقلما واكتبي: يا إلهي اهدني للطريق الصحيح. نعم.. نعم كما تأمر يا إلهي .. فلتكتبي ما تنبأت به من أجل مستقبلك يا جاجات جانيني. هذا الرجل الذي يدعى سارفراز سوف يخدعك.
جاجو: لا، لن يفعل.
الكاهن: إن عدت للماضي ستجدين أنهم لم يكونوا أبدا أمناء. سوف يستخدم جسدك فقط دون أن يتزوجك. في الواقع إنه سيتركك قريبا. ابنتي فلتضغطي على زر الحذف بكل بساطة وانزعيه من حياتك إلى الأبد.
تحدته جاجو، لكن ما زرعه في عقلها من شك كان أعمق من يقينها وإيمانها بقصة الحب التي جمعتها بالشاب الباكستاني فصدقت أول مظهر لـ"خداعه" لها، وكانت الوجهة نيودلهي حيث قُدر لها اللقاء بالغريب بي كي الذي سيكشف له مع توالي الأحداث زيف "الخديعة" التي تعرضت لها.
للتاريخ دور في القصة فباكستان والهند كانا كتلة واحدة قبل انقسامها إلى دولتين لا تزالان تجتران تبعات التقسيم في نزاع دام عقود بمنطقة كشمير. والنزاع السياسي مجرد غطاء لصراع "ديني" لم يزد إلا استعارا بفعل واقع محلي قوامه الرغبة في السيطرة والإخضاع، ومحيط إقليمي أساسه النزاعات وفق أجندات أجنبية تخطط وتمول وتساعد على إبقاء الفتيل مشتعلا في بلد غالبيته من الهندوس بأقلية مسلمة ترى في باكستان المسلمة حامي الحمى. والنتيجة كانت وصول حزب كحزب بهاراتيا جاناتا للحكم ومعه تزايد نفوذ الجماعات الهندوسية القومية التي تشترك مع رئيس الوزراء في مفهومه المتصلب للثقافة الهندوسية، وهو الذي كان رئيس وزراء ولاية غوجارات الغربية التي شهدت أحداث عنف أودت بحياة أكثر من ألف من المسلمين في العام 2002. لم يجد ناريندرا مودي، سنوات بعد الفاجعة، غير التعبير عن شعور بحزن يوازي ما يشعر المرء به حين تدهس سيارة جروا صغيرا. تلك "عقيدة" راسخة لن يغيرها توقيف خطاب جماهيري على خلفية أصوات مئذنة تدعو المسلمين إلى الصلاة.
قبل أيام، عاشت بريطانيا على وقع قصة أشبه بحكاية جاجو وسارفراز حين اعتصم عشرات من السيخ الملثمين في معبد لهم في ليمنغتون احتجاجا على زواج فتاة من الطائفة من رجل مسلم. ليس الأمر مختلفا عند المسلمين والمسيحيين/العرب وأتباع بقية الديانات السماوية منها والوضعية. لم يسمع هؤلاء إحدى أغاني الفيلم التي تقول:
سارفراز : دعنا نضع عاداتنا وتقاليدنا جانبا
ونسير سويا فقط جنبا إلى جنب
إن أزعجك ضوء الشمس سأكون ظلا لك منه
وإن أخافك الليل الحالك سأرسم لك في السماء قمرا
عندما يحيطك الحزن سأرسم الابتسامة على وجهك
سنظل نبتسم ونسير جنبا بجنب
جاجو: لم أعد أخاف من العالم بعد أن التقيت بك
لن أسير معك الآن فقط.. سأظل معك طوال حياتي جنبا بجنب..
في المناظرة التلفزيونية التي جمعتهما في نهاية فيلم بي كي يتجادل الاثنان على وقع تفجير إحدى محطات السكة الحديدية بقنبلة.
الكاهن تاباسيوا: هل تظن أنك ستتحدث عن إلهنا وأنا سأظل جالسا هكذا؟ يا فتى، نحن سنحمي آلهتنا.
بي كي: هل تستطيع أن تحمي ربا؟ أنت؟ عالمكم هذا صغير جدا مقارنة بالعوالم الأخرى. وأنت جالس في هذا العالم الصغير، في هذا المكان الضئيل وفي هذا الشارع، تقول أنك ستحمي الرب الذي خلق كل تلك العوالم؟ إنه لا يحتاج حمايتك، إنه يستطيع حماية نفسه. اليوم مات أحد أصدقائي محاولا مساعدتي. هذا الحذاء كل ما تبقى لي من ذكراه. توقف عن حماية إلهك أو أي شيء آخر في العالم ولن يتبقى من الناس غير أحذيتهم.
الكاهن تاباسيوا: أحد المسلمين فجر قنبلة وأحد الهندوس يجلس الآن يستمع لخطبتك.
بي كي: من هو الهندي ومن هو المسلم؟ أين هي العلامة المميزة لذلك؟ أرني إياها. الناس من تخلق الاختلاف والفُرقة وليس الرب.
ظل الكاهن الهندوسي تاباسيوا مصرا طوال الفيلم على نسب الكائن الفضائي الغريب إلى الإسلام..
1
شارك
التعليقات (1)
تزنيت
الخميس، 29-09-201606:31 م
أبدعت يا طارق كالعادة.. إختيار رائع.. تحياتنا لك ولقلمك المميز