العدالة ليست منصة قضاء فقط، وإنما منظومة من الإجراءات والأدوات المعاونة، التي تشكل في النهاية حصانة للحق وضمانة لتحقيق العدل، فالقاضي وحده ليس ضمانة للعدالة، رغم أهمية دوره، مهما أخلص لها وتجرد من أجلها، لأن الأوراق التي تقدم له والأحراز التي يتم حفظها والمحاضر التي تقدم والتحقيقات التي أجرتها النيابة والحرية التي يتقدم بها الشهود إلى ساحة العدالة، كل ذلك أدوات حاسمة في توجيه الحكم في النهاية، فإذا غاب غابت العدالة، وإذا ارتبكت ارتبكت العدالة وإذا امتهنت امتهنت العدالة أيضا.
الأسبوع الماضي قضت محكمة النقض ببراءة "السني"، أمين الشرطة، المتهم بقتل ثمانية عشر متظاهرا من الذين انتفضوا ضد مبارك ونظامه في ثورة يناير، التي يصفها الدستور بأنها "مجيدة"، كان السني هو آخر شرطي يحاكم في قضايا قتل المتظاهرين، وببراءته أصبحت الشرطة بالكامل مبرأة من أي نقطة دم سالت، ويبقى السؤال البديهي : من قتل قرابة ألف مواطن في ثورة يناير، سيبقى السؤال معلقا بلا إجابة، ومعه ستبقى العدالة غائبة، رغم حكم محكمة النقض أو حكم غيرها، حتى يأذن الله بمناخ سياسي وإنساني وأخلاقي في مصر يساعد العدالة على أن تبسط أجنحتها على هذا الوطن .
الخميس الماضي أصدرت محكمة القضاء الإداري حكما مفاجئا، ربما يساعدنا على توضيح ما قلناه في السطور الماضية، وحكم القضاء الإداري هذا المذهل يتصل بحادثة تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، والتي جرت قبل أسابيع قليلة من ثورة يناير، قبل حوالي خمس سنوات ونصف، واتهم وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي وأجهزته الأمنية بالتورط فيها، ثم محاولة تحميلها لمعتقلين راح أحدهم ضحية التعذيب البشع، وتمت تبرئة من اتهموا بقتله كالعادة، حكم القضاء الإداري "الغريب" يطالب وزارة الداخلية بأن تقدم تحرياتها الأمنية إلى النيابة؛ من أجل مساعدتها على كشف أبعاد الجريمة ومعرفة المتورطين فيها، تخيل معي، خمس سنوات ونصف تقريبا، والأجهزة الأمنية تتهرب من النيابة، وترفض أن تقدم لها تحرياتها الأمنية التي أجرتها حول الجريمة المروعة، التي راح ضحيتها حوالي أربعة عشر مواطنا وإصابة العشرات بعضهم بعاهات مستديمة.
خمس سنوات ونصف والنيابة تنتظر التحريات؛ من أجل أن "تجهز" القضية للقضاء، لدرجة أن أهالي الضحايا يلجأون إلى القضاء من أجل إلزام الداخلية بأن تقوم بواجبها وتسلم تحرياتها إلى جهات التحقيق؛ للوصول إلى قتلة أبنائهم، هذا حكم أسطوري، ويصعب تصور صدوره في أي "دولة" في العالم، بما أنها "دولة"، وهذا الحكم يكفي لكي ينتفض رئيس الجمهورية نفسه ليطلب التحقيق مع كل الجهات التي عطلت العدالة بهذا الشكل السافر، وأهدرت حتى اليوم دماء وأرواح عشرات المواطنين.
يقول نص الخبر (ألزمت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية (الدائرة الأولى) وزارة الداخلية بتقديم تحرياتها حول حادث التفجير الذي وقع أمام كنيسة القديسين إلى النيابة العامة لتستكمل تحقيقاتها في الحادث، وذكرت المحكمة، التي عقدت جلستها برئاسة المستشار عيسى عمران نائب رئيس مجلس الدولة، وعضوية المستشارين مراد فكري هابيل وعوض فتحي بركة، أن "الحادث الإرهابي وقع مع بداية العام 2011 وأدى إلى وفاة 14 شخصا، وإصابة العشرات، وأعلن وزير الداخلية يوم 24 يناير2011 إلقاء القبض على 19 إرهابيا ينتمون إلى تنظيم القاعدة كانوا يعتزمون القيام بأعمال تخريبية بعدة محافظات".
وأضافت المحكمة: "منذ تاريخ الجريمة الإرهابية لم تقدم وزارة الداخلية المتهمين أو تحرياتها إلى النيابة العامة، الأمر الذي يعد إخلالا جسيما بواجبات وظيفتها كسلطة عامة إدارية أو كسلطة ضبط قضائي"، وتابعت المحكمة: "الحادث الإرهابي الجسيم يخل بأمن الوطن، ويحمل خطورة تمس ثقة المواطنين، وشعورهم بالأمن، ما يستوجب على وزارة الداخلية تقديم تحرياتها في الحادث إلى النيابة العامة".، وكان أهالي الضحايا قد أقاموا دعوى أمام محكمة القضاء الإداري لاستكمال التحقيقات المتوقفة في الحادث، وتقديم المتهمين للمحاكمة). انتهى نص الخبر، ولنا أن نضرب كفا بكف من منطوق هذا الحكم، ومن المسخرة التي جرت بكاملها من أول يناير 2011 وحتى اليوم .
في العام 1993 كان عدد من المحامين قدموا طعنا أمام المحكمة الإدارية رفعته إلى المحكمة الدستورية ضد قانون الطوارئ، الذي مده مبارك واستخدمته السلطة بإطلاق يدها في قمع المعارضين، دون أن تلتزم بأي قانون جنائي يضمن عدالة الإجراءات وعدالة المحاكمة، وفي العام 2013، وقبل إسقاط الرئيس الأسبق محمد مرسي بأسبوع، كانت المحكمة الدستورية تقضي ببطلان قانون الطوارئ الذي أصدره مبارك، كان مضى على تقديم الطعن عشرون عاما، حتى تقول فيه المحكمة الدستورية كلمتها، عشرون عاما كانت كافية لفناء شباب أبناء جيل بكامله ظلما في أقبية السجون بقانون باطل.
المصريون المصرية
1
شارك
التعليقات (1)
عبدالرحمن المنذر
الأحد، 30-10-201601:54 م
مصر ............................... هي دولة الظلم................................. بعينها.