وزير في حكومة جلالة الملك يقرعه الديوان الملكي، ووزيران مشرفان على الانتخابات يتنابزان بالألقاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، ورمي لجمرة الإشراف على انتخابات السابع من أكتوبر بين الملك ورئيس الحكومة ومؤشرات أخرى عديدة تبين أن في الانتخابات التشريعية القادمة بالمغرب فرصة "تاريخية" للبلد للخروج من سلبيات سابقاتها. لكنها فرصة تبقى محفوفة بكثير من المخاطر وإمكانيات الانزلاق والانفلات. والبداية من المسيرة..
المسيرة "اللقيطة"..
لم تحظ أي مسيرة، خرج فيها المغاربة إلى الشارع للتعبير عن سخط أو تأييد، بالإجماع كما حظيت به "المسيرة" التي شهدتها مدينة الدار البيضاء يوم الأحد الماضي. الإجماع كان على الإدانة والاستهجان وعلى التبرؤ من الدعوة إليها. انطلقت الحكاية من دعوة على وسائل التواصل الاجتماعي لتظاهرة "شعبية" ضد "أخونة الدولة والمجتمع". بعدها بيوم ظهرت أولى تباشير وصول المحتجين محمولين على حافلات ووسائل نقل جماعية، تبعها توزيع للافتات الاحتجاج وزج بال"متظاهرين" في شوارع فارغة إلا من قليلين. كان المشهد صادما و"مخزيا" برأي كثيرين، وكان أيضا دالا ومؤشرا على حجم الغباء الذي كان وراء تنظيمها.
وزارة الداخلية المغربية أعلنت "جهلها" بالواقفين وراء المسيرة إذ لم تتلق طلبا بالتنظيم وأنها لم تبادر إلى منعها بالنظر لمقاربتها التي تتلخص في "عدم منع أية تظاهرة كبيرة لتفادي السقوط في إشكالات أمنية". والكلام لرئيس الوزراء عبد الإله بنكيران نقلا عن "وزيره" في الداخلية محمد حصاد. بنكيران أضاف معلقا بأن "كلشي باين" وأنه لم يقتنع بكلام الوزير وهو الذي بادر إلى اتهام "جهات مطلوب منها الحياد" بالتعبئة للمسيرة، والمعني بحديثه مصالح الوزارة نفسها.
انتهت "الضجة" إلى لا شيء وفضحت مشاهد التظاهرة وتصريحات بعض المشاركين بعضا من "المستور". لكن لا أحد سيبادر، وفق "الصلاحيات" المخولة له قانونا إلى فتح تحقيق يحدد المسؤوليات ويفضي إلى محاسبة من أساؤوا لصورة المغرب ومؤسساته بمسيرة ولدت "لقيطة" وماتت غير مأسوف على "شبابها".
كان الهدف مواجهة حزب العدالة والتنمية المتهم ب"أخونة الدولة" في استنساخ بليد للتجربة المصرية، وانتهى إلى إظهار الحزب وأمينه العام بنكيران بمظهر الضحية بما يرفع من خزان نوايا التصويت له في انتخابات السابع من أكتوبر. ولم يكن الحزب ليوفق في إخراج حملة انتخابية لصالحه أكثر مما فعل أصحاب المسيرة، وهو ما دفع إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي أو ما تبقى منه، للتصريح بأن مسيرة البيضاء "مؤامرة" من الحزب الإسلامي. إدريس لشكر هو نفسه الذي يعد المغاربة ب"تناوب ثالث" ينهي تجربة العدالة والتنمية كما انتهت تجربة التناوب التوافقي الأولى بزعامة عبد الرحمان اليوسفي، بالشكل الذي يعبد الطريق للتناوب الثالث يجمع الأصالة بالمعاصرة وهما نتيجتان طبيعيتان للتجربتين الأولين.
كادت "المسيرة" أن تقصم ظهر اللجنة المركزية لتتبع الانتخابات، التي عهد إليها الملك محمد السادس بالإشراف على اقتراع السابع من أكتوبر، حيث خرج وزير العدل والحريات بتدوينة على صفحته بالفيسبوك شكا فيها من تهميشه و"تبرأ" خلالها من أية تجاوزات أو نكوص، قبل أن يرد عليه زميله في اللجنة، وزير الداخلية، على صفحات المواقع الإلكترونية.
وهنا كان المظهر الثاني لسوريالية مشهد مغربي "استثنائي" فضحته مسيرة "لقيطة".
وزراء يتنابزون بالألقاب..
"خلال الانتخابات الجماعية السابقة كان وزير العدل والحريات يقرر مع وزير الداخلية في كل ما يتعلق بالشأن الانتخابي… حاليا على بعد ثلاثة أسابيع من انتخابات 7 أكتوبر تقع عجائب وغرائب…!!!وزير العدل والحريات لا يستشار ولا يقرر في شأن ذلك مما يعني أن أي رداءة أو نكوص أو تجاوز أو انحراف لا يمكن أن يكون مسؤولا عنها".
كانت هذه كلمات تدوينة وزير العدل والحريات مصطفى الرميد. وهي كلمات كفيلة بضرب المسار الانتخابي لتشريعيات أكتوبر في الصميم. فعندما يشير وزير العدل والحريات ل"عجائب وغرائب" تحصل قبل أن ينفض يده من أية تجاوزات أو انحرافات، وهو المكلف بالإشراف على الانتخابات، فماذا عسى بقية الفرقاء السياسيين يفعلون؟ هذا هو السؤال الذي طرحه إدريس لشكر (مرة أخرى) قبل أن يعلن عن إرسال مذكرة إلى رئيس الحكومة، باعتباره رئيسا للجنة، للتداول في الأمر الذي اعتبره "خطيرا".
الخطير في واقع الأمر أن وزيرين من وزراء "السيادة" لم يستطيعا تدبير "خلافاتها" في إطار المؤسسات وعبر القنوات الرسمية المتعارف عليها. فاستنجد الأول بالفضاء الأزرق لما صار له من إمكانيات لتضخيم القضايا والتأثير الإعلامي على الدولة ومسؤوليها، وجعل الثاني يستنجد بالمواقع الإلكترونية "غير الرسمية" لتمرير رؤيته للموضوع. لقد بدأ الصراع إعلاميا، وفي ذلك سعي للدخول في الحملة الانتخابية على الأرض من موقع قوة لم تسلم منها حتى وسائل الإعلام التقليدية (قنوات التلفزيون العمومي) التي لا تزال تحت طائلة قصف ممنهج من رئيس الحكومة على الخصوص.
محاولات "التبرؤ" من مسؤولية الإشراف على الانتخابات ليست وليدة تدوينة وزير العدل بل سبق إلى ذلك تأكيد الملك محمد السادس في خطاب العرش أن رئيس الحكومة هو المشرف على الانتخابات. لكن عبد الإله بنكيران لا يترك فرصة دون التأكيد على أن "الضامن الحقيقي لنجاح المسار هو جلالة الملك" وكأنه يبحث عن خط رجعة في حال أسفرت النتائج عن غير التجديد له أو "توريطه" في تلاعب واسع أو تزوير دون قدرة على التأثير. هي انتخابات تكاد تولد "لقيطة" يترامى الجميع جمرة مسؤولية الإشراف عليها.
لكن نقل المعركة للشارع في تنابز الوزيرين وفي تنظيم "مسيرة أخونة الدولة" هو الخطر الأكبر المهدد للتجربة السياسية المغربية أكثر من ذاك المفهوم الهلامي الذي استطاع عبد الاله بنكيران وحزبه جعله مفردة هامة ومحددا للتصويت بدل أن تكون منجزات الحكومة ووفاءها بعهودها الانتخابية الفيصل في صناديق الاقتراع، وهو ما انطلى على كثير من "النخب" السياسية على ما يبدو. إنه "التحكم" الذي زج بالقصر الملكي في أتون "معركة" حزبية تكاد تقترب من "القيامة" كما وصفها الملك محمد السادس في خطابه الأخير، فكان البلاغ..
البلاغ الملكي..
" صدر مؤخرا عن السيد نبيل بنعبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة، والأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، تصريح لصحيفة أسبوعية، اعتبر فيه "أن مشكلة هيئته السياسية ليست مع حزب الأصالة والمعاصرة، بل مع من يوجد وراءه، مبينا أن المقصود بذلك هو "الشخص المؤسس لهذا الحزب، الذي يجسد التحكم"، حسب قوله. ومن الواضح أن هذا التصريح، الذي يأتي بعد تصريحات سابقة لا مسؤولة للسيد نبيل بنعبد الله، ليس إلا وسيلة للتضليل السياسي، في فترة انتخابية تقتضي الإحجام عن إطلاق تصريحات لا أساس لها من الصحة، واستعمال مفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات، في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين. كما أنها تتنافى مع مقتضيات الدستور والقوانين، التي تؤطر العلاقة بين المؤسسة الملكية، وجميع المؤسسات والهيئات الوطنية، بما فيها الأحزاب السياسية...".
بهذه الكلمات "غير المسبوقة" افتتح الديوان الملكي بلاغه ردا على تصريحات للوزير نبيل بنعبدالله لأسبوعية الأيام المغربية، التي سرعان ما اعتذرت عن خطأ في الصياغة تبرئة لذمة الوزير. اعتذار الجريدة لم يكن ذا أثر، فالسيد بنعبدالله، الخادم الطيع للدولة المغربية التي تولى فيها مناصب وزارية عدة دون أن يظهر له أثر ل"التحكم"، ربما تجاوز الحدود المسموح بها في خضم حماسة زائدة ظهرت جلية في كلمات "الغزل السياسي" التي جمعته ببنكيران في الأسابيع الأخيرة، وهو الذي منح، بمشاركته في الحكومة، حزب العدالة والتنمية نوعا من "شرعية" كان يجاهد للحصول عليها لدى بقايا اليسار المغربي.
لكن المقطع الأهم في البلاغ كان " .. كما يؤكد أن مستشاري صاحب الجلالة لا يتصرفون إلا في إطار مهامهم، وبتعليمات سامية محددة وصريحة من جلالة الملك..". هكذا يعيد القصر الملكي رسم قواعد اللعبة التي كانت إحدى الخطب الملكية قد أشارت إليها وهي "تقرع" ضمنا رئيس الحكومة على حديثه عن وجود دولتين. منذ ذلك التاريخ التزم عبد الإله بنكيران الصمت عن الموضوع إلا لمزا عند الضرورة، وربما يكون أوكل لحليفه الحكومي مهمة الحديث. ولأن الحرب بالوكالة صارت الشائع هذه الأيام، فقد صار الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي مجرد متحدث رسمي باسم حزب الأصالة والمعاصرة في كثير من المواقف والتصريحات. بنعبدالله ولشكر كانا حليفين سابقين في إطار "الكتلة الديمقراطية" قبل أن ينتهي بهما المطاف إلى ما هما عليه اليوم.
وللتاريخ فقد كان إدريس لشكر صاحب وصف "الوافد الجديد" الذي أطلقه على فؤاد عالي الهمة بعد تقديمه "الاستقالة" من وزارة الداخلية ودخوله غمار المنافسة الانتخابية قبل دورتين. وكان يكفي استوزار "الزعيم" الاشتراكي في تعديل حكومي للتطبيع مع الأمر بل أصبح حزب الأصالة والمعاصرة حليفا انتخابيا وأملا وحيدا للعودة إلى كراسي الوزارة الوثيرة.
وللتاريخ أيضا فقد كان رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران أول من بادر للاعتذار علانية، عبر بلاغ، للملك محمد السادس ولـ"مستشاريه المحترمين" عن تصريح صحفي نُسِب فيه إليه القول أن "لا تواصل بيني وبين محيط الملك" في السنة الأولى لولايته الحكومية. وهو ما فعلته الحكومة أيضا إبان الانتخابات الجزئية للعام 2012 بسحبها اعتماد صحفي تابع لوكالة الأنباء الفرنسية حين تحدث عن مواجهة حزب العدالة والتنمية لمرشحين مقربين من القصر ينتمون لحزب الأصالة والمعاصرة.
في المقابل، يطرح السؤال عن بقية الأحزاب وغيابها عن النقاش السياسي لما قبل الانتخابات.
الأحزاب في المغرب صارت نوعان، أحزاب تصارع على الهيمنة حد تقديم رئيس حزب على لائحة محلية لحزب آخر (رئيس حزب العهد مرشحا باسم العدالة والتنمية في معقل رئيس حزب الأصالة والمعاصرة)، أو تستقطب "الرؤوس الرابحة" في الانتخابات أو تمنح أخرى أصواتا مضمونة دون أدنى تلاقي أيديولوجي أو انتماء حزبي مكرسة بذلك ظاهرة الترحال السياسي، وأحزاب أخرى تعتبر نفسها مجرد تكملة عدد في الحكومات لا فرق عندها بين يمين و يسار أو محافظة وحداثة. وفي جانب آخر منسي، أحزاب "صغيرة" لا تزال تشهر سلاح المقاطعة أو المشاركة دون تحالفات زادها "رومانسية" نضالية تقترب من الترف السياسي أكثر منه رغبة في التأثير والتغيير.
وفوق كل هؤلاء تظهر الملكية مسيطرة على خيوط اللعبة لدرجة أنها لم تعد تقبل على مستشاريها لفظ "التحكم" بعد أن كان السقف قد علا حديثا عن "الاستبداد".