بعد قراءة صفحات من كتاب جمال حمدان وجدت أن سلفية مصر أصيلة وفرعونية وعمرها سبع آلاف سنة، وفهمت أوامر قاض فرعوني من" الفوارغ الذين رؤوسهم شوامخ"، لمعتقل معوَّق بالوقوف! واستوعبت تطوع قيادة الجيش العظيم للكشف عن العذرية! ووعيت أن يكون امتحان الحليب هو إبراز الأم لثديها للممتحن الذكر! وعرفتُ لمَ يفوز أحمد موسى بالمركز الأول في استبيان جريدة المشاهير لأحسن مذيع في مصر، ويسلمها له مصطفى الفقي! ولمَ يثور عمرو موسى على الغنوشي في لقاء مباشر، غيرة على السيسي! ويصير اسم محمود بدر الشهير ببانجو بطلا في كتب المناهج والتربية والتعليم، مثل عمرو بن العاص، وسعد زغلول، وأحمد عرابي؟!
أما في سورية، فلا حاجة للقضاء، فمعظمه قدر مقدور و ميداني وتحت الأرض، وسنأتي إلى المقارنة مع سورية بين الحين والآخر، فدولة الأسد حالة طارئة، فقد عاشت سورية نصف قرن من الظلم لم ترَ في التاريخ مثله، وكنت أتساءل عن إجابة حسني مبارك في المحكمة، على عربة معوق حتى يجنب نفسه الحرج والوقوف وقد تَوَلَّى كِبْرَه والقاضي ينادي: السيد محمد حسني سيد سيد مبارك، فصاح: حاضر يا فندم.! رئيس يقول لقاض : أفندم؟!
وقتها أخذتني الدهشة كل مأخذ على هذا الأدب، ووجدنا مثله في محاولة السيسي للسلام على السيد أوباما متسولا قليلا من رز الشرف : أهو أنا أهو أنا وما حدش ينفع إلا أنا، شكلي ظريف ... في أدب متوارث صاغرا عن صاغر، أما في المرة الثانية فكان مبارك قد تدرب وتعلم وأجاب إجابة فيها كبرياء الرئيس الجريح: حاضر من دون أفندم.. بعد ثلاثين سنة في الحكم وهي أطول فترة حكم في تاريخ مصر حسب الجوادي. ولعل كثرة اسم "سيد" في مصر يفسر حالها، فهي لم تنل الاستقلال والسيادة إلا فترات قليلة، فقد انتقلت بين أنواع الاحتلال: الهكسوس، ثم الاحتلال الليبي، ثم حكم الأسرات، ثم الإثيوبيون، ثم الأشوريون، ثم الفرس، ثم الإغريق البطالسة، ثم روما، ثم بيزنطة، ثم العصر الإسلامي (كاتب السطور يعدٌّه فتحا)، ثم فرنسا، ثم بريطانيا.. وكانت تمتص عبر القرون كل هذه الصدمات، وتنجو بنفسها بالدفاع السلبي، وهي لم تعرض لهجرات في واحة تحيط بها صحراء عازلة، وإنما إلى غزوات حربية. "فهي أطول مستعمرة في التاريخ" ، إنها أقدم الأمم ، لكنها أبعد من أن تكون أمة الأمم" .
ويتابع حمدان وصف مصر: كانت تتمتع بقوة امتصاص هائلة، نادرة وحيوية بيولوجية تهضم معظم العناصر الوافدة حتى تصهرها كأنها البوتقة في الجسم الكبير، ولم يتح لكل الغزاة أن يؤثروا فيها سوى العرب الذين " فرضوا" -وهو تعبير منقول لجوستاف لي بون - عليها دينهم ولغتهم، والرأي الصحيح أن لغة مصر الفرعونية هي إحدى أغصان شجرة اللغة العروبية، أما الوحدانية الإسلامية التي دخلت مصر فهي دين البشر الفطري.
ويؤكد حمدان على البيروقراطية المصرية العريقة، التي رأينا مثلها في فلم كوميدي هو "أربعة في مهمة رسمية"، وعملها في إسقاط البرلمان المنتخب بقرار قضائي، ما جعل مرسي المنتخب فريسة سهلة، النخبة المصرية الحاكمة جعلت من قضاء مصر أغنية اسمها "القضاء الشامخ"، وهو قضاء منيل بستين نيلة من أيام يوسف عليه السلام.
يقول حمدان: إن الاستبداد المطلق هو الأمر اليومي، فالسخرة والكرباج والتعذيب منذ الفراعنة وحتى أيام العثمانيين هي التي بنت الأهرام، وشقت القنوات، وأحرزت الانتصارات الحربية، ويضيف إليها: أحادية الاقتصاد المصري الزراعي التي حدّت من نمو طبقة بورجوازية.. لذلك نرى مثلا شخصية الفولي في رواية يعقوبيان تقول: الناس الساذجة فاهمون إننا نزور الانتخابات. لأننا دارسين نفسية الشعب المصري كويس. المصريين ربنا خلقهم في ظل حكومة...لا يمكن لأي مصري أن يخالف الحكومة.. هناك شعوب طبعها تثور وتتمرد إنما المصري طول عمره يطأطئ لأجل يأكل عيش. الكلام ده مكتوب بالتاريخ. الشعب المصري أسهل شعب ينحكم في الدنيا".
ثم نرى الكاتب علاء الأسواني يقلد شخصيته الفولي، بعد نجاح الانقلاب، فيرى السيسي في الحلم ويرسل له رسائل ويجادله أمام الله ويقارنه مع عبد الناصر! و ونرى محمد حسين هيكل الذي كان يعادي مبارك ويتحدث عن جفاف البركة من الماء والسياسة، ثم صار ذراع السيسي السياسي وحزبه، وذراعه الأيمن وكاتب خطاب الانقلاب وقد جفت البركة من الماء والرز، وعلي جمعة يضرب التحية للرئيس المشير في مشهد كأنه من أفلام إسماعيل ياسين.
نصف في المائة من مجموع السكان يملك نصف الدخل القومي " مجتمع النصف في المائة"، وحول هذه النواة تدور مدارات من طبقات المجتمع، أما سياسيا فإن الغلاف العصري الهش من الحياة النيابية والدستورية والبرلمانية وسائر المظاهر الليبرالية المستعارة من أوربا فهي اكسسورات للزينة، ويرفض حمدان نظرية المناخ وهي نظرية لطيفة تربط بين سهولة البيئة المصرية أرضا ومناخا، وبين دِعَّة ووَدَاعَة لأنها تفرط في تبسيط صعوبات البيئة، كما تبالغ في تبسيط الطابع البشري للمصري وصلابته الخشنة مع عدم خلوها من الصحة.
ويرى حمدان إنه ساعد على تحقيق التجانس بين أفراد الشعب المصري رغم المؤثرات عدم وجود عقبات طبيعية مثل الغابات أو المستنقعات أو الجبال.. انظر إلى سكان الجبال في سوريا وهم شعب آخر تماما، شعب احتلالي.
ويقول حمدان: إذا كانت قصة الحضارة المصرية في قيامها وانحدارها هي جوهريا التفاعل بين البيئة والإنسان، فلا ينبغي أن ينحرف هذا التفسير إلى الحتمية.
مصر من الخارج واحة صحراوية، أو شبه واحة، أو هي جزيرة أو شبه جزيرة، في محيط كعالم واحد لا متناه، صارم الحدود، والمعالم، ملمومة في نفسها ومتماسكة وجسمها، يبدو البلد كأقدم وأضخم وأكثف جزيرة بشرية منفردة في أفريقيا وقلب العالم القديم، حتى ليبدو الفاصل بين الحياة والموت كالخط الصقيل، ونجد مصداق ذلك في فيلم مدافن مفروشة للإيجار: تمثيل محمود ياسين ونجلاء فتحي وحسن الإمام، وإخراج علي عبد الخالق، ونرى في المدافن جنازة بجوار جوازة والعريس ووريث الميت يتبادلان التهنئة والعزاء!
ويرى: أن مصر تحتمت عليها الوحدة لغياب الانفصال من الداخل وغياب الاقتسام من الخارج، فهي أطول دولة حافظت على وحدتها القومية عبر التاريخ: الوحدة الطبيعية، والوحدة الوطنية، الوحدة اللغوية، الوحدة الدينية، الوحدة النفسية. وكانت دائما وطن من لا وطن له.
ملاحظة: جمال حمدان نفسه كان ناصريا، وكان الأولى بمفكر رصين مثله، أن يكون مستقلا من الولاء، فتأمل يا رعاك الله!