قضايا وآراء

أما زال القرآن صالحاً لزماننا؟ (2)

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
ماذا عن خصوصيات النبي التي يفصلها القرآن لنا، وما صلاحية الحديث عن بيوته وأزواجه وعدم رفع الصوت في حضرته لعصرنا الحديث؟

إذا اتفقنا أن التوجه العام في القرآن توجه تجريدي متجاوز لخصوصية مرحلة تنزله فلن يضر بعد ذلك وجود بعض الإشارات لحقبة تاريخية بعينها، وفي أي رواية يكتبها روائي عالمي تجد إشارات إلى بيئة الكاتب وثقافته لكن هذا لا ينزع عن الرواية عالميتها، لأن العالمية تنال من قدرة الكاتب على الغوص إلى المعاني الإنسانية العميقة ولا تقتضي انتزاع الرواية من أي تفصيل ظرفي.

البعد الواقعي يخدم المعنى العام، والإنسان يحتاج إلى نماذج حية وأمثلة واقعية حتى تترسخ المعاني في قلبه وحتى يتمكن من تشكيل تصورات وأخيلة تقرب له المعاني، إن التجريدات الفلسفية لا تكفي وحدها في كتاب يهدف إلى دفع الناس إلى العمل والاستقامة.

المواطن التي تتناول قصصاً تخص عهد النبي تحمل فائدة تتمثل في أنها تظهر لنا كافة جوانب حامل الرسالة الأول وتضعه تحت مجهر المعالجة المكثفة، فأن ينفذ القرآن إلى أخص خصوصيات النبي محمد مع زوجاته ويبرزها لنا يحمل درساً بأن هذه الرسالة تقتضي الصدق الكامل وأنها لا تعرف المحاباة والمجاملة لأحد، أما آداب تعامل المؤمنين مع النبي فهي وإن لم تكن بحرفيتها تطبق في زماننا فإن روحها حية، ونستطيع أن نستفيد منها في التعرف على طبيعة العلاقة بين الرسول والجماعة الأولى من المؤمنين وأنها قائمة على التبجيل لا على التقديس، كذلك نستفيد استلهامها في التعامل مع أولي الأمر من العلماء والدعاة في عصرنا وما يحمله ذلك من معنى روحي يتمثل في تهذيب النفس وكسر تضخم الذات الذي قد يقع فيه الإنسان حين يخيل إليه أن نفسه تمثل مركزية الكون والحياة ويأنف أن يتواضع أمام أي أحد وأن يعترف لأحد بأسبقية فضل عليه، لذلك فإن وجود مثال شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم ضرورة روحية وتربوية لتزكية نفوس المؤمنين وتخليصهم من مرض تضخم مركزية الذات.

هناك أيضا فائدة معاصرة لإظهار تفاصيل حياة النبي محمد والمؤمنين الأوائل تتمثل في خلق الهوية التاريخية للأمة، فالأمم كلما كانت لها نقطة بدء تاريخية واضحة كلما كان ذلك أدعى لتمتين روابطها وتعميق روحها وإشعار أفرادها بالرابطة الوجدانية الراسخة، والأحداث التي شهدتها فترة الرسالة وإن انتهت موضوعيا إلا أن رمزيتها وأسطوريتها تظل حيةً في نفوس الأمة وقادرة على تشكيل الوعي الجمعي للأمة في كل حين، مثلا ما هو الأثر الرمزي لمشهد عمر بن الخطاب وهو نائم تحت شجرة أو وهو يقتص للقبطي من عمرو بن العاص في تشكيل مخيال عام حالم بالعدل والحكم الرشيد عبر القرون، وإيجاد نموذج تاريخي يلهم النفوس ويستفز طاقات الحركة من أجل إحيائه في الواقع المعاصر؟ لكن القرآن يشرع لقضايا إما أنها انتهت تاريخياً أو أن مركزيتها تراجعت في الفكر الإنساني مثل الرقيق والقتال، ألا تعد معالجة هذه القضايا دليلاً على أن القرآن ضغط نفسه في صندوق تاريخي؟

القرآن كان يتنزل بتشريعات عملية تقدم حلولا وقتية لكنها في الوقت نفس تضع الإطار الأخلاقي الشامل المتجاوز للحظة، التشريع المحدد يتمثل في حثه على تحرير الرقاب لكن الإطار الأخلاقي الشامل هو العدل والرحمة والإحسان، القرآن لا يأمر ابتداء باسترقاق الناس، لكنه كان يتعامل مع نمط تاريخي متجذر في علاقات البشر، لذلك تعامل مع شروط الواقع لكن دون أن يتخلى عن مثاليته الأخلاقية، فهو لم يفضل في أي موضع من مواضعه استرقاق الناس على تحريرهم، بل سعى في كل المواطن إلى توسيع مخارج الرق واعتباره كفارة للذنوب، وحين جاءت اللحظة التاريخية التي نضج فيها الوعي البشري فانتهى الرق بمعناه القانوني فإننا لا نجد في القرآن ما يحثنا على البقاء في ذلك المربع بل إن الروح العامة للقرآن و إطاره الأخلاقي لا يسعه إلا الانحياز للواقع الجديد لأنه أهدى و أقسط وأقرب رشدا وهذه هي مقاصد القرآن الكلية كما يقول القرآن نفسه.

الأمر نفسه يقال مع القتال، فالقتال تنظيم لحالة موجودة ودفع لهذه الحالة باتجاه الانضباط الأخلاقي وليس تأسيساً لحالة جديدة، القرآن لم ينشئ القتال في علاقات البشر، إنما خاطب المؤمنين: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، ماذا لو انتهى القتال من العلاقات البشرية أو تراجعت مركزيته كما نرى اليوم في علاقات الدول المتقدمة؟ هل نقول إن القرآن يفرض علينا أن نواجه العالم الجديد بالقتال؟ القتال مشروط بحالة العدوان فإن غاب الشرط انتفى جوابه بطبيعة الحال، وحتى لو انعدم القتال كلياً من علاقات البشر فإن آيات القتال تظل حية في معانيها الروحية، لأن للقتال معناه الروحي السابق لمعناه التطبيقي التاريخي، فالقتال على الصعيد الداخلي للنفس البشرية هو الشجاعة الروحية وهو عكس الجبن وليس عكس السلام، وبذلك يأخذ القتال تجليات رمزيةً متجددةً لأن كل مواجهة شجاعة في سبيل مبدأ أخلاقي فهي تنطوي على حقيقة القتال وروحه وإن غاب عنها شكله التقليدي وإن كانت مواجهةً سلميةً، وعلى الصعيد الخارجي فإن القتال هو التدافع بين البشر وهو باق وإن تغيرت فيه الوسائل، ومقصد القتال ليس سفك الدماء إنما المدافعة من أجل حماية المستضعفين و حتى لا تفسد الأرض.

بقيت معضلة أخيرة، وهي آيات الحدود، هل تتناسب عقوبة مثل قطع يد السارق مع معايير العصر الحديث ومع تطور الفكر القضائي، أم أنها تحمل طابعاً خاصاً بزمان نزولها؟
 
آيات الحدود لا تتجاوز الخمس آيات، وهذا يعني أن القرآن ليس حدودا بالدرجة الأولى، إنما هي اللبنة الأخيرة في تدرجه البنائي والتشريعي، وإن تناولنا السياق المتكامل للقرآن الكريم وترتيب أولوياته ومنحنا كل أولوية الحجم نفسه الذي يمنحه القرآن لها في معالجاته اتسع أفقنا الفكري في التعامل مع هذا الكتاب.

لا أملك أدوات معرفية كافية لإعطاء حكم قاطع في المسألة، لكن رأيا للمفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي يستحق التدبر، فهو يرى أن أحكام المعاملات إمضائية في معظمها، أي أمضت وأجازت ما كان موجوداً بعد تهذيبه، وبذلك فهي معبرة في الكثير منها عن تدبيرات ذات علاقة عضوية بالزمان والمكان والاجتماع البشري يومذاك.

أيا كان الرأي الأصوب في هذه المسألة فهي تظل مسألة جزئية متروكة لتوسع الفقهاء فيها عبر تفكيك الظروف الزمانية في كل من عصر الرسالة وعصرنا الراهن، لكن الأكيد الذي تبين لنا من خلال الشواهد المتقدمة وغيرها أن القرآن في سمته العامة كتاب يتجاوز محدودية الزمان والمكان ليقدم منهج هداية روحية للمؤمنين، وهو كتاب أثبت قدرته طوال ألف وأربعمائة عام على المحافظة على ثرائه الروحي والأخلاقي والرمزي وعلى فاعليته العملية.

"يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين".
0
التعليقات (0)