أربع وعشرون ساعة فقط تفصل بين القصف الإسرائيلي المكثف وغير المسبوق منذ سنتين لشمال وشمال شرقي قطاع غزة، وبين بيان الخارجية الأمريكية. بيان الخارجية الأمريكية، ليس بيانا تحليليا لتطوّرات الأوضاع، ذلك أنه ينطوي على لغة حاسمة تعوّدت أن تصدر عن تلك الجهة، قبل وقوع أحداث صعبة قد تنذر بخطر ما على الرعايا الأمريكيين.
بلغة حاسمة حذر البيان الرعايا الأمريكيين من السفر إلى إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، وطالب الرعايا الموجودين بسرعة المغادرة، البيان يشير إلى أن «الوضع الأمني في الضفة وإسرائيل لا يزال معقدا»، ويصف «الظروف الأمنية داخل غزة وعلى حدودها بالخطيرة والمشتعلة». يؤكد البيان مسألتين: الأولى، هي أن الأمريكيين غير مستهدفين هناك بسبب جنسيتهم، ما يعني أنه حسب البيان مرتبط «بإمكانية حدوث تغييرات سريعة ارتباطا بالمناخ السياسي والأحداث الأخيرة».
حين يصدر مثل هذا التعميم الحازم والواضح عن الخارجية الأمريكية فإن المسألة تتجاوز حدود التحليل، وتعدد الاحتمالات على المعلومة، والمعلومة في هذا السياق تأتي من إسرائيل، ذلك أنها هي الفاعل المبادر والذي يمتلك رؤية سياسية وخططا جاهزة يسعى لتنفيذها وهي رؤى تتجاوز حدود ما يجري على أرض فلسطين التاريخية إلى ما يتصل بالمحيط العربي والإقليمي، والتطورات الجارية والمرتقبة.
خمسون قذيفة أطلقتها الطائرات والمدافع الإسرائيلية مساء يوم الأحد الماضي بذريعة انطلاق صاروخ على مناطق 1948. المحصلة الأهم للقصف الإسرائيلي ليس إصابة أربعة مواطنين، ويتجاوز الرسالة الردعية القوية التي أرادت إسرائيل أن تصل إلى فصائل المقاومة في غزة، وسكان المستوطنات في غلاف غزة.
بالمناسبة كانت السلطات الإسرائيلية قد أبلغت سكان المستوطنات أن يراقبوا الرد الإسرائيلي المزلزل، وهم قد عبّروا عن ابتهاجهم لما رأوا وسمعوا، ولذلك كان القصف متركزا على شمال وشمال شرقي القطاع، حيث المستوطنات قريبة وبخلاف ما تعودنا عليه من أن القصف والتوغلات كانت متركزة أساسا في مناطق شرق خان يونس.
الإعلانات من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي تحدثت عن أن القصف وقع في مناطق فارغة واستهدف مواقع تدريب للقسام وسرايا القدس، غير أن الهدف الحقيقي هو قصف لما تعتقد إسرائيل أنه أنفاق هجومية، خصوصا أن ثمة من قال بأن إسرائيل استخدمت قذائف من النوع الذي يصل إلى عمق عشرين مترا وأكثر.
إزاء التطورات المرتقبة التي يشير إليها بيان الخارجية الأمريكية، لا يذهب السؤال إلى الأطراف الفلسطينية إن كان في الضفة أو في غزة، ذلك أن قراءة الأوضاع لا تشير إلى أن حركة حماس أو غيرها أو فتح في الضفة بصدد تفجير الأوضاع لا على المستوى الداخلي ولا على مستوى العلاقة مع إسرائيل.
أشتمّ في تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان والتي تتصف بلغة «إنسانية»، «مرنة»، على غير عادته وطبيعته، ما يشير إلى جانبين: الأول، التضليل سواء للقوى الفلسطينية أو الخارجية، والثاني، الوضوح في جوانب تتعلق بالمخططات الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية.
لا أرغب في العودة مجددا، لربط التطورات الجارية والمرتقبة على الأرض الفلسطينية، ورؤية كل طرف من الأطراف الفاعلة عليها بما يجري من تطورات على الصعيدين الإقليمي والعربي، فلقد كتبت عن ذلك مرارا، ولكنني أحذّر، خصوصا أطراف المقاومة من أن اللغة الصادرة عن الإسرائيليين قد تذكّرنا بالخديعة التي أدّت إلى استشهاد القائد القسامي أحمد الجعبري.
في سياق التطورات التي نتحدث عنها وبالعلاقة أشير إلى ما يُشاع في قطاع غزة بعض الوقت، حيث تقوم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» بإعادة تأهيل أكثر من أربعين مدرسة حتى تصلح للإيواء. في هذه المدارس تقوم الوكالة ببناء مراحيض وحمّامات مخصصة للذكور وأخرى للإناث، مع أن المدارس ليست مختلطة، خصوصا بالنسبة للجيل الخطر.
ويضاف إلى ذلك، ما يعرفه سكان القطاع، من أن الطائرات دون طيار الإسرائيلية لا تغادر سماء القطاع على مدار الساعة ومنذ أسابيع.
في النقاش مع بعض السياسيين، ومنهم قادة في فصائل العمل الوطني، أستغرب أنهم يستبعدون تماما أن تقوم إسرائيل بارتكاب عدوان آخر أكثر بشاعة هذه المرة على قطاع غزة، وذلك ارتباطا بمعادلة من وجهة نظري قديمة تقوم على أن إسرائيل مرتاحة للوضع الفلسطيني الذي يتعمق فيه الانقسام، وتنعدم فيه الخيارات، ويجتهد في المحافظة على الهدوء والالتزام بوقف إطلاق النار.
ما يدفعني لترجيح إقدام إسرائيل على عدوان كبير هو حاصل بشكل مختلف في الضفة، لكن المقصود به غزة، هو ربط ما يجري على الأرض الفلسطينية مع ما يجري في المحيطين العربي والإقليمي، حيث تتراجع مكانة القضية الفلسطينية لتتقدم عليها أولويات أخرى، تفرض قواعد جديدة للتحالفات والمصالح. الأمر ليس بيد الفلسطينيين، ذلك أن إسرائيل هي من يدير اللعبة ويفرض قواعدها، وإسرائيل تتطلع إلى التوسع في المحيطين العربي والإقليمي تساعدها في ذلك أوضاع دولية متفهمة ومساعدة.
الأيام الفلسطينية