وكانت جمهورية بامبوزيا مثالا يحتذى به في تداول السلطة، خصوصا بعد "موقعة الصينية المجيدة" (إطلاق رصاص على الرئيس من مسدس كان مخبأ داخل صينية الشاي) ايلي بعدها تولى الرئيس شنن الجيوش قيادة الشعب البامبوزي البطل. ونعمت بامبوزيا بالأمن والاستقرار بفضل قراراته الحكيمة، وأهمها منع أي حد من الدخول عليه وهو شايل "صينية". وصار شنن على نهج القادة العظماء المصلحين ( على الحائط نستعرض صورا لهتلر وموسوليني).
بعد أن عاد الشعب الذي أبهر العالم في إنجاز "ثورتين" في أقل من ثلاث سنوات؛ إلى ممارسة الرياضة القومية الأكبر في توسد الكنبة، أمام سيل "قنوات الصرف الإعلامي" التي وصلت في "مهنيتها" إلى ما دون القاع، انطلق الخبراء الاستراتيجيون والمحللون السياسيون والاقتصاديون والمنجمون، بعد أن استعادتهم أجهزة الدولة الدعائية من مزبلة التاريخ حيث رماهم الواقع الجديد لما بعد 25 يناير، في بث الفكر الطليعي الجديد للعسكر و"الرؤية" المجددة لانقلاب دموي قضى على بشائر تجربة انتخابية، أقرب ما تكون للنزاهة، بما هدد عروشا وأنظمة تعتبر الانتخابات النزيهة شرا مستطيرا.
الديكتاتور، 2009 للمخرج إيهاب لمعي
يصرخ شنن الجيوش مذعورا، فيدخل عليه حاجبه إلى غرفة النوم مستفسرا عن سبب ذعر ولي نعمته الانقلابي.
حنفي: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم. خير يا ريس؟
شنن الجيوش: كابوس، كابوس فظيع يا حنفي. حلمت أنهم ح يعملوا انتخابات رئاسية نزيهة يا حنفي.
حنفي: سلاما قولا من رب رحيم.
شنن الجيوش: دخل علي واحد اسمه صقر وسحب الكرسي من تحتي.. هو يشد وأنا أشد.. في الآخر راح شادد شده وسحب الكرسي من تحت مني وأنا وقعت.
حنفي: يا خبر أبيض.. طب وحضرتك عايزني أتصرف إزاي؟
شنن الجيوش: اطلب لي وزير الداخلية.
ثم ظهرت البنادق وهي ترمي رجالا مقيدين وترديهم قتلى في مجزرة جماعية، و"نجحت ثورة التطهير البيضاء نجاحا تاريخيا"، كما جاء في التعليق المصاحب لصور الجثث المرمية على كل جانب.
خطب شنن الجيوش في الشعب مدعيا أن "مرضا لعينا تفشى بين الصقور فاضطرت قواته إلى تطهير البلاد من كل الصقور، حتى من حمل منهم الاسم فقط، حرصا على سلامة الوطن"، تحت تصفيقات ومباركة "الشعب".
ميدانا رابعة والنهضة لا زالا شاهدين على جرائم الانقلاب، مهما حاول النظام العسكري طمس الحقائق وتغيير المعالم بتسمية رابعة باسم نائبه العام المغتال. يومها، أبدى السيسي، وهو بحضرة عائلة هشام بركات، "حنقه" على القضاء وإجراءاته الطويلة، مطالبا بالإسراع فيها وتنفيذ الأحكام الصادرة في حق "الصقور"، وكأنه الحل للكارثة التي أوقع فيها مصر وشعبها منذ انقلابه في الثالث من تموز/ يوليو. ولأن بيع الوهم صار سلعة رائجة في العهد السيساوي، انبرت أبواقه الإعلامية تنادي بتنفيذ أحكام الإعدام، بل صار وزير "عدله" يعلنها واضحة على "مسؤوليته" أن قتل الآلاف من الإخوان ومن والاهم لن يشبع رغبته ورغبة الشعب في الانتقام لـ"شهداء" الشرطة والجيش، في إعلان لم يسبقه إليه وزير "عدل" منوط به إعمال القانون في كل الأنظمة الاستبدادية المعاصرة. انتهى المطاف بأحمد الزند طرفا أصيلا في وفد "العمرة" الإماراتية التي سبقه إليها وزير داخلية الانقلاب محمد إبراهيم، الذي اعتبر ذات يوم ثاني اثنين أرسلهما الله لإنقاذ مصر من شر الإخوان، وكان بدأها أحمد شفيق مع ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية التي أوصلت محمد مرسي لقصر الاتحادية دون أن تمكنه من مقاليد الحكم الحقيقي للبلاد.
بين وصول مرسي للرئاسة وانقلاب وزير دفاعه عليه قبل أن "ينتخب" في مواجهة الكومبارس الضرورة، الوريث الحصري لتراث الناصرية، سرت مياه كثيرة تحت جسر المحروسة، حتى عادت معها معالم حكم الفرد - الإله بمباركة الجماهير، وانتقلت الولاءات من النقيض إلى النقيض، وبلغ الدجل والتدليس مبلغه قبل أن تتفرق سبل المتواطئين على تجربة الحكم الديمقراطي الجنينية لخلاف على توزيع الغنائم لا على مبدأ أو قناعة أو عقيدة أو إيمان.
في المقابل، لم تفلح حملة "التطهير" التي أطلقها السيسي في مواجهة كل من أعلن معارضة لجبروته في إخماد الحرائق التي أشعلها الانقلاب في كل بقعة من بقاع المحروسة. بل ظلت ذكرى مجزرة رابعة بالأساس تطارده وأعوانه أينما حلوا وارتحلوا، برغم كل التغاضي الذي ميز رد فعل الدول الغربية، "نصيرة حقوق الإنسان"، قبل أن تتحول إلى راعية للانقلابات على النظم المنتخبة، كما ظهر جليا في الانقلاب التركي الفاشل قبل أسابيع. كما لم تفلح سياسة بناء السجون، المتناسلة بالبلاد أكثر من أي عمران آخر، في تكميم الأفواه أو إلغاء صوت الاحتجاج ولو اتخذ طابعا فئويا أو مناسباتيا في أغلب الفترات.
ومع استمرار حكم العسكر بمصر في تكريس قبضة القوات المسلحة على كل مفاصل الدولة "المدنية"، وتنامي رقعة الغضب على إجراءاته اللاشعبية المكرسة للفوارق الطبقية بين دولة "الآمنين" وبقية الشعب، الذي زادته سياسات الانقلاب تفقيرا وتجهيلا ودفعا لأتون مجهول قد يأتي، في حال تحققه على الأخضر واليابس، مما تبقى من مقدرات وخيرات مصر وآمال أبنائها، يبدو المستقبل أكثر غموضا من أي وقت مضى، وطرح السؤال: ماذا لو انتظر الفرقاء من المخططين لما سمي "ثورة مضادة" وهو انقلاب متكامل الأوصاف، ومن استعمل حطبا في تحقيقه من "القوى السياسية والإعلاميين والمثقفين" وقطاعات مهمة من "الكنباويين" ومحترفي الإفتاء فيما لا يفقهون، انتهاء الولاية الانتخابية للرئيس وبقية المؤسسات التمثيلية على علاتها؟
الفرح، 2009، للمخرج سامح عبد العزيز
إلى جانب الجسد المسجى لوالدة المعلم زينهم، يجتمع "أقطاب" الفرح الصوري الذي نظمه المعلم على أمل تحصيل "نقطة" تمكنه من شراء ميكروباص يعتاش منه.
الراقصة تقرأ مصحفا، ولا ضير في ذلك، فكثير من "الشيوخ" صاروا مجرد رقاصات في محراب الانقلاب. زينهم صاحب "الفرح" يبكي أمه المتوفاة ساعات بعد انطلاق الحفل. المعلم حبشي يمشي جيئة وذهابا. العسلي النبطشي الموكل إليه مهمة "شعللة" الفرح أخرس لا يتكلم و"العريس" المؤجر عبد الله والمونولوجيست صلاح وردة ليسا أحسن حالا منه.
حبشي: شوف يا خويا. دلوقت الحي أبقى من الميت.. واخد بالك.. ماهو ما يبقاش موت وخراب ديار.. متحضرونا يا رجالة.. دلوقت الأمانة معانا ومحدش من أهل الحارة والمعازيم عارفين بللي حصل. أنا بقول نأجل إعلان الوفاة.. نداري الأمانة جوه ثلاث أربع ساعات من غير ما حد ياخد باله لغاية لما تلم فلوسك يا أسطى.. ده انت ما لمتش نص فلوسك لغاية دولقت.
زوجة زينهم: يا لهوي !انت بتقول ايه؟
زينهم: معقولة يا ريس حبشي.. دي أمي.
حبشي: طب والله لو عايشة وسمعانة دلوقت لتوافق.
صلاح: أيوه يا أخ زينهم، الريس حبشي عنده حق. ع الأقل لما تمسك فلوس في ايدك تعرف تعمل لها خرجة حلوة تليق بيها.
حبشي: الله ينور عليك يا أبو صلاح.
زوجة زينهم: يا ناس حرام عليكم.. الولية ميتة وانتم عايزين تغنوا وترقصوا؟ ح تعمل كده يا زينهم؟ح تعمل كده؟
عبد الله: يا ست الحزن في القلب وكلها ساعتين زمن.
حبشي: انت بتعمل كده في نفسك ليه؟ هو احنا حنرميها؟ مش لسه فيه إجراءات وغسل يكون الفرح شطب؟ هو احنا حنسيبك؟
العسلي: دلوقتي يا أسطى زينهم الناس ايلي تحت ده لا مؤاخذة لو عرفت أن الفرح باظ حتأجل الفلوس ايلي عليها وحليني بقا لما تعرف تعمل فرح ثاني ويدفعوا ايلي عليهم.. موال.. ولا أنا غلطان؟
وتحول صوان الفرح بعد ساعات لخيمة عزاء، بعد أن سرقت "نقطة" المعلم زينهم وانتهى "الفرح" قرحا ووبالا على من خططوا له واستمروا فيه ضدا من المبادئ والقيم والأعراف.
لم يكن حال المشاركين في التجربة المصرية/ الفرح، لما بعد الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير وما تلاها صعودا وهبوطا، ثباتا وتلونا وانتقالا بين المواقع أحسن حالا من شخصيات فيلم الفرح، فصار منهم المطرود من هيلمان السلطة والمسجون والمنفي والممنوع من ممارسة عمله والمنتشي بالسلطة والمطبل ومحترف التدليس الديني والراقص على الحبال ... والضحية: مصر، التي صار دخولها غير باعث على الأمان عكس ما ورد في الآية الكريمة، ففيها "حاكم" يتجرأ على الأهالي قبل الضيوف من الأجانب معلنا في خطاباته "إما أن نحكمكم أو نقتلكم". هكذا انتهى الأمر بشعب قيل أن "أبهر العالم" بـ"ثورة" سلمية قيل أنها أنهت حكما مستبدا دام ثلاثين عاما. وفي مواجهة تلك العنجهية، لا يجد المستسلمون لأمر العسكر غير إطلاق حملة شعبية لجمع التوقيعات لمد فترة رئاسة السيسي ثماني سنوات كمرحلة أولى على الأغلب.
لم يعلم هؤلاء أن شعبا جارا تمكن من إفشال انقلاب على الحكم الديمقراطي في ظرف ساعات لم تتعد ليلة واحدة، في واحدة من الملاحم المعاصرة لتثبيت إرادة أمة آمنت بالديمقراطية نهجا وسبيلا، واستطابت اختيار ممثليها عبر الانتخاب على لعق البيادة العسكرية بعد أن عاثت في البلاد فسادا لعقود.
في مصر، لا يزال هناك من يضع البيادة على رأسه وهو يرقص مزهوا بذله وهوانه على نفسه قبل الناس، لتستمر على يديه وأيدي أمثاله مهزلة الانقلاب وأزلامه إلى ما لا نهاية.
1
شارك
التعليقات (1)
كنبة
الخميس، 11-08-201609:16 ص
أ طارق كاتب اكثر من رائع ويعرف مصر وفنها ولغتها اكثر من كثيريين يدعون المصرية.