كيف ظهر الإرهاب في العالم الإسلامي؟ وكيف توحش؟ وما هي أسبابه؟ بطبيعة الحال من الخطأ أن ينسب الإرهاب لسبب واحد، فهذا تسطيح للأمور، هناك عديد من الأسباب الفكرية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية أيضا، تتقاطع وتتداخل وتتكامل، تغلب إحداها على الأخرى في حالة وتغلب غيرها في حالة أخرى، ولكني لاحظت أن هناك سببا جوهريا في استنبات الإرهاب في العالم العربي والإسلامي واتساع نطاقه لم يلتفت إليه كثير من الباحثين أو المحللين، وهو مسؤولية النخب الفكرية والثقافية المتغربة، علمانية النزعة والهوى في ثقافتنا، سواء كانوا قد اختاروا اليسار أو الليبرالية أو نزعات القومية، فهذه النخب مسؤولة مسؤولية مباشرة وأصيلة عن التطرف والإرهاب في بلادنا، وهذا ما يحتاج بعض التوضيح.
المجتمع الإسلامي لم يكن مقصورا على علوم الدين وحدها، ولا على قواعد الفقه وحدها وعلى نصوص السنة وحدها، وإنما كانت هناك حضارة إنسانية تنمو وتتعاظم وتنسج خيوط مجتمعها بالتدريج على مر السنين والعقود ثم القرون، ليعرف العالم مجتمعا إنسانيا خصبا ومركبا ومتمازجا بصنوف من العلم والدين والأدب والفن والثقافة والمعرفة والفلسفة والزهد والرفاه معا، وهذا المجتمع المتمازج، بإرثه الحضاري ونسيجه المركب، كان يحمي بعضه بعضا، ويخفف بعضه من غلواء بعض، ويوازن بعضه بعضا، ويرقق بعضه من خشونة بعض، وتنمو خلاياه حتى المتعارضة نموا طبيعيا يتصل نسبه بنسب بعض حضاريا وإنسانيا، وكانت مكونات المجتمع من الارتباط والتمازج بما يصعب عليك أن تفصلها عن بعضها.
هذا بالضبط ما حمى المجتمع الإسلامي في أغلب قرونه من نزعات الغلو والتطرف والإرهاب، لتصبح حالات شاذة وعابرة وقصيرة الأمد وخاطفة في مسار التاريخ الطويل لأكثر من ألف وأربعمائة عام، بينما كان الاعتدال والتسامح ورقي الحياة هو سمة هذا المجتمع اللصيقة به، وهي التي جعلته من القوة بحيث كان قادرا على استيعاب أي غزاة وقوى عالمية كاسحة ثم يهضمها ثم يذيبها في تيار حياته النابض والحي بقيمه وثقافته وفنونه وآدابه وعلومه وفي دينه أيضا.
في العصر الحديث، وعندما أراد المجتمع العربي والإسلامي أن ينهض وأن يواكب عالما جديدا يتشكل، كان يفترض أن تكون النهضة عملية شاملة لكل مكونات هذا المجتمع، ومتصلة مع تراثه ومكوناته المتمازجة التي حققت له توازنه عبر التاريخ واعتداله وتسامحه ونسيجه الخاص لتضيف إليها الجديد وتمزجها بالخبرة الإنسانية الجديدة، لكن الذي حدث أن النخبة الجديدة انجذبت إلى الحالة الغربية المبهجة والقوية والمستعلية بروح الهزيمة، وعجزت عن تفكيكها ونقل ما تحتاجه منها لدعم خطط النهضة في بلادنا واستكمال الخبرة الإنسانية التي نقصت، سيطر الكسل الذهني وضعف روح الإبداع عليها، ودفع تلك النخب إلى استيراد الحالة الغربية بمكوناتها كلها وحتى حساسياتها الفنية والأدبية ومذاهبها الفكرية والفلسفية، وجعلها بديلا كاملا تقريبا للنسيج الاجتماعي والثقافي والمعرفي والقيمي الإسلامي، ودافعوا عن ذلك ببسالة وقرروا قطيعة مع ماضي الأمة ومجتمعه التاريخي ونسيج حضارتها.
ثم تشكلت نظم سياسية على هذا الأساس بعد ذلك، خاصة عندما نجح العسكريون في اختطاف السلطة في العواصم العربية والإسلامية المهمة والمحورية، فترجموا هذا "الاختيار" الثقافي إلى منهج سياسي وهوية دولة ومشروعها تفرض عنوة بالقمع وسحق إرادة الشعوب، وهو ما ولد رد فعل مقابل عند الحالة "الدينية" فنشطت جمعيات وأفكار للإحياء الديني، ونشطت معها حركة إحياء علمي وتراثي، انحشر معظمها في علوم الشريعة والفقه والسنة بشكل مباشر ومنعزل عن أي سياق حضاري واجتماعي، نشأت في صحراء قاحلة من الإرث الإنساني والأدبي والفني والحضاري الذي يذيبها في مشروع إنساني غني ومتسامح، فنشأت أجيال جديدة على هذه العلوم أو شذرات منها، لكنها في صحراء الروح والفكر والأنسنة والحضارة، في معزل عن بقية مكونات حضارة الإسلام والمنظومة التي شكلت نسيج مجتمعه عبر التاريخ، فوقع الخلل، وبدت القطيعة التي فرضتها النخب العلمانية تؤتي ثمارها في ملايين الشباب الجديد، فهم يعيشون نسقا اجتماعيا وقيميا يختلف تماما عن علوم الشريعة والفقه والسنة التي يدرسونها، فتمزق المجتمع، ونمت الأفكار فيه على أساس الخوف من الآخر والشك فيه والرغبة في سحقه أو تهميشه، وغاب التسامح والاعتدال.
وكان أخطر ما تولد عن ذلك الانقسام الذي سببته القطيعة، هو جفاف الحالة الدينية، وانعزال معطياتها العلمية عن بقية المكونات المجتمعية الثقافية والأدبية والفنية والمعرفية، وهي المكونات التي كانت تحقق توازنا مع علوم الشريعة في المجتمع وترطب من قسوة الخلاف وتنشر ظلال التسامح الاجتماعي والديني والثقافي، بل وتفسر كثيرا من معطيات الشريعة، وتجعل التعايش بين المكونات كلها حالة إنسانية تذيب متناقضاتها في سياق حضاري واحد، فلما غاب هذا كله، اتسع فضاء الوعي أمام بعض المغامرين في الحالة الإسلامية لاختطاف الفكر الديني في اتجاهات عنيفة ودموية وشديدة التطرف، وكان سهلا عليهم اختطاف عقول كثير من الشباب الذي غاب عن وعيه وتكوينه التربوي والثقافي والروحي ذلك التواصل الشامل مع ميراثه الحضاري بآدابه وفنونه وثقافته والذي يحقق له الامتلاء والاتزان والتكامل في الشخصية الإنسانية ويغرس فيه روح التسامح والتعايش.
في تاريخ "الأمة" ومجتمعها كان يتجاور العالم والجاهل والزاهد والمترف والعابد والفاسق والتقي والفاجر والمؤمن والملحد، وتجد بينهم الحوارات الثرية واللمحات الإنسانية العميقة والتسامح والرهان على تقلبات القلوب ورحمة الله بالخلق، بل وتعايشت في هذا المجتمع المتسامح مذاهب الفكر والعلم والفقه على شدة ما بينها من خلاف وجدل مرير، وكان نادرا ما تجد فقيها إلا وتجد له في الأدب أو الشعر أو الفنون أو الفلسفة أو التصوف أو الأخلاق عطاء واجتهادا وتأملات رائعة، بل وتعايشت الديانات ومعابدها على مر القرون، نسيج حضاري واجتماعي قوي وعفي استوعب المتناقضات وحولها إلى طاقات إيجابية لتحسين جودة الحياة ونشر التسامح وصناعة الحضارة، كل هذا اختفى الآن؛ بسبب تلك القطيعة الجاهلة التي فرضها على واقعنا النخبة المتغربة ظنا منها أنها تختصر الطريق لنهضة الأمة وجعلها في مصاف الغرب المتفوق خلال سنوات، فلا ظهرا للمجتمع أبقوا ولا نهضة حققوا، بل ورثونا هذا الجفاف الإنساني والخلل الروحي والثقافي والحضاري الذي شكل بيئة خصبة لتوالد الإرهاب والتطرف والكراهية.