اعتاد الانقلابيون على التسلل تحت جنح الظلام والاستيلاء على مقرات السيادة الرئيسية، ومنها تلاوة البيان رقم واحد والإعلان عن نهاية الحكم المدني، ثم تنصيب واجهات ورقية يتحكم فيها الجنرالات من وراء حجاب.
ما لم يدركه انقلابيو تركيا ومن صفقوا لهم مشرقا ومغربا وسارعوا للاحتفال بنجاح المؤامرة، هو أن مياها كثيرة قد جرت في نهر السياسة التركية خلال العقدين الأخيرين، فلا جيش اليوم هو نفسه الذي أطاح بأربع رؤساء حكومات؛ بداية بعدنان مندريس في الستينيات، وصولا لأربكان قبل عقدين من الزمن، ولا الشعب التركي هو ذاك الذي كان ينصاع لأوامر الانقلابيين ملازما بيته مستسلما لمصيره.
سلسلة الإجراءات الإصلاحية التي شرع فيها أردغان -تحت عنوان التقيد بالتوجه الأوروبي-، وإن لم تكتمل بعد، قد نجحت في الحد من جبروت الجيش وسطوته على الحياة المدنية.
ومع تراكم تقاليد ديمقراطية من انتخابات وتعددية ومجتمع مدني حر، غدا الشعب التركي أكثر جرأة وتحررا، ساعده على ذلك كسر سيطرة وسائل الإعلام المركزية على الوعي العام وتحكمها فيه، بفضل الانتشار الهائل لوسائل الإعلام الحديثة.
ربما أخطأ أردغان في مسائل عدة، في وضع داخلي وخارجي شديد التعقيد، لكن المؤكد هو أن شرعيته انتخابية شعبية، وأنه ساهم إلى حد كبير في إطلاق المؤسسات المدنية وترسيخ سلطة الشعب في مواجهة مؤسسة عسكرية، مردت على الانقلابات وتمرست في التحكم في السياسة والعبث بالسياسيين. لقد مثلت حقبة العدالة والتنمية مرحلة تحرير الحكم المدني من سطوة الجيش، والانخراط الجدي في مشروع إصلاح المؤسسة العسكرية التي لم تطمئن إلى أردغان يوما ولم يطمئن إليها، ثم الإقدام على مشروع أكثر جرأة بإصلاح الجهاز الأمني والاستخباراتي والقوات الخاصة.
حينما تحركت الأجنحة المعادية لهذا المشروع الإصلاحي للتمرد والانقلاب، وجدت نفسها في مواجهة شعب أكثر جرأة، وقوات أمن داخلي بعقيدة جديدة تدين بالولاء للنظام الديمقراطي ومؤسسات الدولة، إلى جانب قطاعات من داخل الجيش نفسه رافضة للارتداد نحو الخلف منحازة، للحكومة المدنية المنتخبة.
انتفاضة الشعب التركي وتحديه للقوة الغاشمة لم تحبط هذه المحاولة الانقلابية فحسب، بل ستطوي صفحة الانقلابات العسكرية إلى غير رجعة، بعد أن رجحت كفة الميزان لصالح الحكم المدني بشكل كامل. بغض النظر عمن سيكون على رأس المؤسسة العسكرية مستقبلا، سيفرض على الجيش المكوث في ثكناته وعلى حدود البلاد، بعيدا عن السياسة ورهاناتها ومعادلاتها.
رسائل الانقلاب العسكري الفاشل لم تبعث للمغامرين العساكر الذين أساؤوا قراءة المشهد التركي فحسب، بل اتجهت لزملائهم من الأجلاف الانقلابيين في الجوار العربي. السقوط المدوي للمؤامرة الانقلابية، جعل السيسي وزمرته العسكرية في حالة من الارتباك والوجل ووضع أضعف، مثلما بث الأمل في الشارع المصري الذي لايزال يعاني من مخلفات إجهاض ثورة يناير، والإطاحة بالتجربة الديمقراطية الوليدة.
الزلزال التركي لحظة فارقة في تاريخ الشعوب العربية التي ستغدو أجرأ على كسر حاجز الخوف وتحدي جبروت العساكر والطغاة، الذين استعادوا زمام الأمور بعد انكسار موجة التغيير التي عرفت بالربيع العربي.
انقلاب عساكر تركيا الفاشل عرّى نفاق وكذب الكثير من الليبراليين واليساريين في المنطقة وخارجها، ممن يتغنون ليلا نهارا بفضائل الديمقراطية وحقوق الإنسان وسلطة الشعب وإرادته، ثم يصطفون مصفقين مهللين لشرذمة من العساكر الانقلابيين الأجلاف.
كما فرض على الحكومات الغربية اللجوء إلى المخاتلة الدبلوماسية، بتجنب إدانة الانقلاب في بداية الأحداث و الاكتفاء بالتعبير عن “القلق” والدعوة “للحذر” و“ضبط النفس”. ولم تتغير هذه العبارات الجوفاء الممجوجة باتجاه الدفاع عن الديمقراطية والشرعية الانتخابية، إلا بعد تمكن الشعب التركي المنتفض من التصدي للدبابات وتقييد أيدي الانقلابيين الآثمة.
مثلما أن الثورة التونسية قد وضعت الشعوب العربية في قلب الحراك السياسي وبينت سطوة الشعوب وقوتها في مواجهة الحكام المستبدين، فإن الإطاحة بالانقلاب العسكري الغادر عبر ملحمة الشعب التركي التي سطرها بدمائه وأصواته الهادرة في الشوارع والساحات، قد أعاد شعوب المنطقة إلى قلب المعادلة السياسية، ومنحها جرعة هائلة من الأمل والثقة في قدرتها على افتكاك زمام الأمور مجددا، وتحديد مصيرها ونحت مستقبلها.