القطاع 1701 (الجنوب اللبناني)، هادئ وآمن ومستقر منذ عشر سنوات. فقط دوريات جنود «اليونيفيل» الدائمة والمتواصلة تعطي طابعا عسكريا في القرى وعلى الطرق تؤشر إلى وضع متحسب ومعلق على حذر دائم. حرب تموز من العام 2006، لن تكون آخر الحروب مع العدو الإسرائيلي، لكن من الواضح انه ستمر سنوات أخرى من هذا السكون المختلط دائما بسؤال: إلى متى؟. هذا الوضع هو الذي يجعل الحركة تحت الأرض ناشطة، وكأن الانفجار واقع اليوم قبل الغد.
خلال عقد كامل من السكون في الجنوب، تغيرت وجهة بندقية المقاومة، من الجنوب بعيدا إلى الشمال، من بيروت في أيار وصولا إلى الزبداني وحلب، مرة باسم الدفاع عن مقام السيدة زينب ومنع «سبيها مرتين»، ومرة باسم تحرير فلسطين، وأخيرا الحرب ضد «داعش» وانتصار حلف الممانعة والمقاومة. هذا التحول في الوجهة من الجنوب إلى الشمال، أراح إسرائيل، مهما قيل عن التطور القتالي والتنوع التسليحي وتضخم مخزون الأسلحة لدى «حزب الله» هذا سبب من «سلة» كبيرة ومتكاملة من الأسباب.
«حروب» سوريا، أزالت الركن الأخير من القوة العربية حاضرا ومستقبلا لأكثر من خمس وعشرين سنة قادمة. حتى لو عثر على حل اليوم قبل الغد وقام نظام جديد من تحت الرماد والركام، فان إعادة البناء للبشر قبل الحجر تتطلب سنوات طويلة وجهودا عظيمة وإرادات بنّاءة وإيجابية غير مسبوقة. إسرائيل تحررت من «الجناحين» العراقي أولا والسوري ثانيا. المهم في كل ذلك أيضا أن الجولان أصبح في خبر كان إلى أن يأتي اليوم الذي تهزم فيه إسرائيل وهو بلا شك بعيد جدا.
ما عزز قوة إسرائيل ليس السلاح، كما هو واضح من الحالتين السورية والعراقية، وإنما أيضا خروج مصر، أولا بسبب اتفاقية كامب دايفيد وفي ما بعد بسبب تراكمات سقوط نظام حسني مبارك من جهة ومن جهة أخرى «الحرب الداعشية»، التي شغلتها عن كل شيء وأربكتها اقتصاديا إلى درجة انه لولا الدعم المالي من السعودية وغيرها لكانت تبحث عن طريقة تخرجها من الهاوية الاقتصادية بكل ارتداداتها ولا تجدها.
«داعش» قوّى إسرائيل. قذف التنظيم الإرهابي الأسود الزيت على الخلافات المذهبية السنية - الشيعية، وفي الوقت ذاته ابعد أسلحته وناره عن إسرائيل. انشغال العرب والمسلمين بعضهم بالبعض الآخر، جعلها تتحرر من كل الأخطار، ويظهرها خارجيا الدولة القوية والمتحررة من « صغائر المذهبية ودمويتها وهي الدولة التي ولدت من الأساطير الدينية. لكن الأخطر في نمو «داعش» وارتداداته الإرهابية، انه حوّل إسرائيل للكثير من الدول إلى قوة مطلوب التعاون معها أمنيا وسياسيا إذ لا يمكن فصل السياسة عن الأمن. لذلك اليوم أصبحت الحليف رقم واحد لروسيا، والشريك القوي لتركيا التي تبدو وكأنها كما صعدت بسرعة إلى قمة التشدد، تهبط بأسرع من الصوت إلى قعر الاعتدال والمصالحات الانقلابية التي لا تبدو مفهومة إلا بخوف استراتيجي قاتل موزع بين «داعش» والأكراد.
أخيرا جاء دور إيران، التي تحتفل بمرور عام كامل على توقيع الاتفاق النووي. انقلب النظام الإيراني على الثورة بسبب طموحات المرشد آية الله علي خامنئي، واستراتيجيته في نقل الحروب بعيدا عن حدود بلاده، من جهة، وكسب مواقع داخل الأنظمة والدول التي مهما قيل عنها فإنها تشكل «هلالا شيعيا«. هذا الانقلاب بدا مريحا له طوال السنوات الخمس الأخيرة، خصوصا انه استمد منه حضورا وقوة إقليمية دعمته أمام الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما. لكن شاء أم أبى المرشد فإنه لا يمكن ضبط «النار المشتعلة« أمام «منزلك»، خصوصا اذا طالت مدتها وكانت توجد أسباب عميقة مناسبة لها داخل «منزلك» مثل الأكراد والبلوش وخلافات داخلية، مهما جرى ضبطها باسم الوطنية، فإنها تبقى مهيأة للاشتباك.
بعيدا عن الحجم الداخلي الصغير والمبغوض شعبيا لتنظيم «مجاهدي خلق»، فان انعقاد تجمع له في باريس شارك به بعض الوجوه السياسية العربية قد اثأر النظام الإيراني كما لم يسبق له من قبل، وقد وصل الأمر إلى توجيه اللوم لفرنسا على استضافة المؤتمر، فإن السؤال الذي وجهه البعض وخصوصا من السوريين: لماذا المشاركة غير الرسمية العربية والفردية بالمؤتمر، امر جلل، يتم التهديد بسببها لأنها عدائية بإزالة أنظمة ودول عربية، أما تدخل إيران عسكريا تحت مسميات مختلفة، فطبيعي؟ أيضا من منح للمرشد وغيره تطويب بشار الأسد رئيسا إلى الأبد و»خطا أحمر» ممنوع كسره باسم المقاومة والممانعة؟
هذا لا يبرر ذاك، ولكن حان الوقت لوضع كل ما أنتجته الحروب المتداخلة في المنطقة على الطاولة بكل جدية، وإرادة بالوصول إلى حلول منصفة يقدم خلالها الجميع تنازلات مؤلمة، حتى لا يأتي اليوم الذي تكون إسرائيل شريكة في صوغ سياسات الدول ورسم خرائط المنطقة. من يعتبر هذا كله مجرد مظاهر خادعة لليأس، فليتابع يوميات الحروب في سوريا، حيث الجميع (كلهن يعني كلهن) يقاتلون ويتقاتلون، إما بالتعاون مع إسرائيل، أو تحت أنظارها وإشرافها المباشر، وهي فوق ذلك تتدخل عسكريا ومخابراتيا كلما وجدت في ذلك مكسبا مطلوبا لسياستها وأمنها.