حينما يرفض الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن تقرير شيلكوت الذي أدان فيه ضمنيا الغزو الأمريكي البريطاني للعراق في عام 2003 ويقول إن "العراق بات أفضل دون صدام حسين؟!"، فإن هذا الجواب المليء بالعجرفة والصلف يعني أن عقدة العزة بالإثم قد تملكت تماما هذا المستكبِر، ولا أمل في أن يحذو يوما حذو حليفه بلير، ويعترف بدوره بما سبّبته جريمة غزو العراق من آثار كارثية، يمكن لأيِّ ملاحظ بسيط أن يراها بوضوح تام ودون عناء.
لقد وعد بوش إثر غزو العراق وإسقاط نظامه في عام 2003 وقتل مئات الآلاف من أبنائه وحلّ جيشه الوطني، بإقامة عراق جديد يكون "أنموذجا في الديمقراطية والازدهار والرخاء"، فكانت النتيجة تدمير الدولة الوطنية ذات الهوية الجامعة لكل العراقيين، وتسليم مقاليد الحكم لعملاء أمريكا الذين جاءت بهم على ظهور دباباتها، ومن ثمة تسليم البلد لإيران، فوفّر الاحتلالُ بذلك بيئة خصبة لظهور النعرات الطائفية والعرقية بقوة، والقضاء على الهوية الوطنية الجامعة التي نجح صدام حسين في فرضها على العراقيين جميعا طيلة أيام حكمه، فظهرت النزعات الانفصالية لدى الأكراد، ودخل السنة والشيعة في حربٍ أهلية دموية لا تبدو نهايتها وشيكة، ومهّدت كل تلك الأجواء لظهور تنظيمات متطرفة عديدة، اتخذت أسماء مختلفة وصولا إلى "داعش" في السنوات الأخيرة، وقد اكتسح هذا التنظيم مساحات واسعة من العراق وسوريا بين 2013 و2015 وأصبح يهدّد بتغيير جذري لخارطة المنطقة.
الاحتلال وعدَ بالديمقراطية كبديلٍ لديكتاتورية صدام فجاء بالمحاصصة الطائفية والفوضى والاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، ووعد بالرخاء والازدهار فانتشر الفقرُ والبؤس لدى فئات واسعة من الشعب، وتردّت الخدمات الأساسية بشكل غير مسبوق، وانتشر الفساد ونهبُ المال العام على نطاق واسع، حتى أصبح العراق يحتل كل سنة مرتبة "متقدِّمة" في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم.
وبرغم كل هذه النتائج الكارثية للاحتلال التي لايزال العراقيون يدفعون ثمنها من دمائهم وأموالهم واستقرار بلدهم، فإنه لا يمكن الحديث عن إمكانية جرّ بوش وبلير وهوارد وغيرهم من القادة الغربيين الذين شاركوا في جريمة غزو بلد عربي مستقل عضو في الأمم المتحدة، إلى الجنائية الدولية لمحاكمتهم على ما اقترفوه في حق العراق وأبنائه، وعلى تدميرهم الدولة الوطنية، وتحويل العراق إلى دولة فاشلة تنخرها الحربُ الأهلية ويهدّدها التفسّخ والتقسيم؛ فالعدالة هي عدالة القوي، ولن تطبق أحكامها إلا على الضعفاء، وليس على بوش وبلير ونتنياهو... ولذلك لا نتصوّر أن ما يقوم به بريطانيون شرفاء من حملة لجرّ توني بلير إلى الجنائية الدولية سيحقق شيئا.
أمرٌ آخر ينبغي قوله بهذا الصدد، وهو أن جريمة غزو العراق لا تتحمل مسؤوليتَها فقط أمريكا وبعضُ الدول الغربية التي ساعدتها في ذلك، بل إن الدول الخليجية التي فتحت أراضيها ومياهها الإقليمية ومجالاتها الجوية للقوات الغازية، وموّلت عدوانها على العراق، وروّجت للاحتلال ودعمته بشتى الطرق، تتحمّل بدورها نصيبا كبيرا من المسؤولية؛ فقد انساقت وراء العدوان دون وعي بمخاطره وساهمت في إسقاط حكم صدام الذي كان درعا متينا لها في المنطقة، ومنحت العراقَ على طبق من ذهب لإيران، ثم أخذت بعدها تندب ضياع حليفها منها وتحوّله إلى شوكةٍ في خاصرتها، وإذا كان هناك من يجب أن يُحاسَب على التداعيات الخطيرة لغزو العراق، فإن قادة هذه الدول ينبغي أن يكونوا في مقدِّمة المحاسَبين على مساعدة الأجانب في احتلال دولةٍ عربية "شقيقة".