أثارت كلمة حنين الزعبي، النائـــبة العـــربية في الكنــيست الإسـرائــيــلـي، والتي وصفت فيها جنود الجيش الإسرائيلي الذين قتلوا المواطنين الأتراك التسعة (2010) على متن الباخرة مرمرة بالقتلة، ضجة كبيرة في المحافل الإسرائيلية، السياسية والإعلامية، وفي وسائط التواصل الاجتماعي.
وكانت الزعبي قالت بكل صراحة للحكومة ولأعضاء الكنيست الإسرائيليين من على منصة الكنيست: "عليكم أن تعتذروا وتنهوا الحصار على غزة"، («هآرتس»، 2/7)، إذ أن حكومة إسرائيل اعترفت بالقتل واعتذرت لتركيا في حين أنها لم تفعل ذلك مع الفلسطينيين ولا مرة.
يذهب بنـــا كلام الزعبي مباشرة، ومن دون أيــة مواربـــة، إلى خطاب المستعمَر الذي يرتكز على الحقيقة والعدالة، بدل التماهي مع خطاب المستعمِر، القائم على القوة والسلطة والسلب والمحو، وهو ما يمثله الخطاب الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين، والذي اشتغل منذ أكثر من سبعة عقود على إزاحتهم من المكان والزمان والحلول مكانهم، باعتبارهم مجرد مقيمين طارئين، أو بمثابة سكان لا حاجة لهم.
هكذا قالت حنين بكل جرأة أخلاقية وسياسية، وباسم معظم الفلسطينيين، ما ينبغي قوله، وما يفترض قوله مما يسمى قيادة حركة التحرر الفلسطينية أو ما تبقى منها، بدل الاتكاء على خطاب بائس، لا جدوى منه، ولم يجد أي صدى له في إسرائيل، يتأسس على السكوت عن رواية المستعمِر. وهذا ما يجعل الفلسطينيين ضحية مرتين، مرة نتيجة النكبة التي أحاقت وما زالت، بهم، منذ قرابة سبعة عقود، ومرة ثانية بقبول إزاحة سرديتهم وإحلال سردية عدوهم مكانها.
بيد أن ما فعلته الزعبي، وما فعله قبلها نواب عرب كثر، مثل توفيق زياد وإميل حبيبي وعزمي بشارة وأحمد الطيبي ومحمد بركة وجمال زحالقة، على سبيل المثال، يلفت الانتباه إلى حقيقة أخرى، لا ينبغي التقليل من أهميتها، ولا السكوت عنها.
المسألة المطروحة هنا هي هل كان يمكن لصبية مثل حنين الزعبي (طبعاً لا يهم الجندر هنا)، أن تقول ما قالته في أي برلمان أو مجلس شعب عربي؟ هل هذا ممكن؟ هل يمكن أن تقول للسلطة أنها قاتلة أو مجرمة أو سارقة أو فاسدة؟ وإذا قال أحد ما ذلك، كفرضية، ما الذي سيكون مصيره؟
بمعنى آخر، هل كان يمكن إنتاج مثل حنين الزعبي في دمشق أو بغداد أو طرابلس؟ هنا ربما سيقول أحد ما: لماذا تقول دمشق وبغداد وطرابلس ولا تسمي أي عاصمة أخرى؟ والرد أنني أقول ذلك لأن هذه الدول يفترض أنها دول جمهورية، وأنها تدعي الديمقراطية والتقدم والاشتراكية والحداثة والحكم باسم الجماهير، فيما الدول الأخرى لم تعتبر نفسها، ولم تقدم نفسها، على هذا النحو. لذا فالأمر يتعلق بهذه الأنظمة بالذات التي أكلت أعمارنا بادعاءاتها عن القومية والتحرير والتقدم ومحاربة الإمبريالية والصهيونية والقضية المركزية والتوازن الاستراتيجي، وقد تبين أن كل ذلك مجرد ادعاءات و»عدّة نصب» لترسيخ سلطتها والتغطية على لا شرعيتها لا أكثر.
هكذا لا يمكن إنتاج مثل حنين الزعبي في تلك العواصم لأن إسرائيل تتفوق علينا بنظامها الديمقراطي (بالنسبة لمواطنيها الإسرائيليين)، حتى وهي دولة استعمارية وعنصرية ودينية بالنسبة لنا، كما تتفوق علينا بفضل نظام التعليم فيها (من أعلى الدول في العالم إنفاقاً على البحث العلمي)، ناهيك عن مستوى حرية الرأي والتعبير والتنظيم، وتداول السلطة، أي أنها لا تتفوق علينا فقط بقوتها العسكرية وبعلاقاتها بالولايات المتحدة على ما يحلو للبعض الترويج.
ثمـــة جانب آخر على غاية الأهمية، يتعلق بإسرائيل وبنا، وهي أنها تحاربنا بمستوى من العقلانية بحيث لا تبدو حربها ضدنا إفنائية، أو وجودية، إذ هي تتوخى إزاحتنا من المشهد، وتبديد وجودنا وطموحاتنا، لذا يمكن إنتاج حنين الزعبي وأمثالها، في حين أن الأنظمة المذكورة تخوض ضد مجتمعاتها حرباً وجودية، وفق قاعدة أكون أو لا أكون، وهذا ما يفسر ما يحصل في سورية مثلاً، التي يعتبر النظام أنها خاصته، وهذا معنى شعار: "سورية الأسد أو نحرق البلد"، وهذا ما يفسر حال امتهان كرامات مواطنينا وهوان مجتمعاتنا وعقم أحوالنا. وطبعاً هذا لا يلغي أن إسرائيل في لحظة الحرب الوجودية لن تقصر، لكنها لا تحتاج لذلك في هذه الظروف، ولا تتصرف بناء على هذه العقلية، وهذا ما فعلته مراراً في حروبها على الفلسطينيين وحملاتها ضد لبنان. فالجريمة جريمة مهما كانت صغيرة أو كبيرة طالما أنها تستهدف قتل المدنيين وتدمير عمرانهم وتشريدهم.
طبعاً هذا ليس مديحاً لإسرائيل، وإنما هو تقرير لواقع مؤسف، فإسرائيل دولة استعمارية وعنصرية ودينية وتستخدم القوة لفرض هيمنتها على الفلسطينيين، وهي دولة مصطنعة وغير شرعية لأنها قامت على حساب شعب آخر، وبوسائل القسر، وليس كنتاج لتطور سلمي للمجتمع اليهودي في فلسطين، وهذه مقارنة فقط للتعريف بأحوالنا ومعرفة الدرك الذي وصلنا إليه.
نعم ما كان يمكن إنتاج شخصيات معارضة تتحدى السلطات وتكسر روايتها وتدينها مثلما أنتج مجتمع الفلسطينيين في إسرائيل. فهؤلاء نهلوا من التعليم فيها، وعاشوا في ظل ما تتيحه ديمقراطيتها واستثمروا فيها، وتجرأوا على كسر السقف المتاح. ولا شك هنا أن ثمة ما يعود إلى جهدهم وثقافتهم وجرأتهم، السياسية والأخلاقية، لكن هذه ما كان لها أن تثمر لو كانت في مكان آخر، أو في أي عاصمة عربية. وللتذكير، حتى "هنه أرنت" استنتجت أن غاندي ما كان له أن يكون لو كان في مكان آخر غير الهند، التي كانت تقبع تحت نير الاستعمار البريطاني.