يتوجه «حزب الله» بالوعد والوعيد لحاكم مصرف لبنان ولمصرف لبنان وللقطاع المصرفي اللبناني، بعد انتهاء فترة من «الواقعية المتبادلة»، تمكن الحزب من خلاله أن يجمع بين صفته كـ«خارج عن القانون» بالنسبة إلى كتلة الدول الغربية، وبين بقائه «متصلا»، ولو مواربة بالنظام المالي العالمي الذي تسيطر عليه المؤسسات المالية لأعدائه العالميين هؤلاء، وفي المقدمة منهم الولايات المتحدة الأمريكية.
يريد الحزب الآن الشيء ونقيضه: الاحتقان والسخط بوجه المعادلات المصرفية والمالية اللبنانية لأجل إعادة نسج شبكة حمائية جديدة له، لأجل التفتيش عن حيل جديدة تمكنه من الإبقاء على رئة اتصاله بالنظام المالي العالمي. يبقى أن هذه اللعبة لا تنحصر في الحزب والمصرف المركزي، كما أنّ الحزب والمصرف المركزي على حد سواء لا يستطيعان الإفلات من منطق له، غربيا وعربيا، ترجمات عدة، تلتقي جميعها في أن الحزب عليه أن يساعد نفسه، كي يتمكن الآخرون، في الداخل والإقليم والخارج من مساعدته على الخروج من دائرة معاملته كتشكل إرهابي. أما أن يكون الباب إلى ذلك هو الترهيب، فهذا بقطع النظر عن الموقف منه، لن يخدم كثيرا. يفترض أن الحزب يعي بما فيه الكفاية أن الكرة ليست في ملعب النظام المالي اللبناني، وأن هذا النظام سعى حقيقة لتجنب عواقب الأمور، والبحث عن حلول توفيقية ما أمكن، لكن هناك حدود لكل شيء، ولم يعد من الممكن إيجاد غطاء لبناني للحزب لا ديبلوماسيا ولا ماليا ولا من أي نوع، طالما أن الحزب لم يقم بعد بأي جهد يذكر لإظهار أنه قادر على التكيّف، بانعطافة، نحو الهدوء.
التضييق على الحزب من النظام المالي العالمي ليس بالأمر السهل حتى بالنسبة للبنانيين من أخصام الحزب؛ كونه يفرض عليهم أعباء جديدة، ماليا واقتصاديا وسياسيا وأمنيا، ولهم بهذا المعنى مصلحة في موقف براغماتي في هذا الجانب، لكن لهذا الموقف شروطه، وهي لم تعد، وإلى حد كبير، تتعلق بالنظام المالي اللبناني، الذي كشف نفسه أكثر من اللازم للنظام المالي العالمي في السنوات الأخيرة، لجهة أنه ساهم في تأجيل التصادم بين الحزب والعالم.
بطبيعة الحال، سيجد الحزب مصلحة له في التعطيل والتفريغ هنا أيضا، كما وجدها حيال كل مسألة متعلقة بالمؤسسات والعلاقات في ما بينها في الدولة. لكن السلوك التعطيلي أو الشغوري بإزاء وظائف الفئة الأولى، كحاكمية المصرف وقيادة الجيش، وفي ظل شغور متمدّد لموقع رئاسة الجمهورية، يزيد الأمور خطورة ومدعاة للقلق.
ليس بالمستطاع معالجة المشكلة الراهنة ببدعة «المقاومة النقدية» أي فائض القوة العنفية للحزب في نزاعات الداخل، هذا الفائض المستنزف بشكل دموي متواصل في سوريا. فائض القوة يبطش بالسياسة، لكنه هش أكثر حيال المعادلات المالية، تماما مثلما كانت هذه المعادلات مطواعة أكثر معه في وقت سابق، وهو ما يجعل الحزب يعتقد أنه برفع السقف الخطابي يمكنه أن يستعيد هذا «الزمن المصرفي الجميل» بالنسبة له. لكن هذا الزمن «الجميل» انتهى، ولن يرجع إذا بقي «حزب الله» على حاله، وما لم يسعَ، وبدلا من ابتزاز مؤسسات الدولة والقطاعين العام والخاص، والحلفاء والأخصام، كي يؤمن له كل هذا شبكات تواصل غير مباشرة مع النظام العالمي، لا سيما النظام المالي العالمي، إلا الاستفادة من «فائض قوته» قبل فوات أوانها بغية تحويلها لأشياء أخرى ومفيدة، ولا يكون ذلك إلا بإعادة حصر نطاقه بلبنان: إذ لا يمكن الحزب أن يكون حزبا «عالميا»، يحارب فوق كل أرض، وتكون مشكلته مع مصرف لبنان أنه لا يتوسط له لدى النظام المالي العالمي. عندما يعود فيعطي الأولوية ثم الحصرية لعمله اللبناني تصير «الوساطة اللبنانية» له في الخارج مقنعة أكثر، وممكنة أكثر، وتصير طوعية أكثر، وليست حاصلة بالابتزاز. لكن من قال إن الحزب يريد ذلك؟ إنه يريدها وساطة داخلية بشروطه الخطابية والأمنية هو، بما يعرف هو، أن يؤديه ويحركه وينطق به.
هناك حد أقصى لما يمكن للمصرف المركزي أن يفعله، والحزب يعي ذلك ويكابر بدلا من إعادة التموضع، بدءا من القضايا المالية.