لو أن الكوارث المدمرة التي تخضع لها شعوب الأمة العربية، تنطوي على أبعاد قيمية أخلاقية وحسب، لكان على شعوب الأرض أن تذرف الدموع مدرارة على ما يتعرض له الشعب الفلسطيني، والشعب العراقي والسوري والليبي واليمني، والمصري، لكن المسألة تخرج عن سياق الأخلاق والقيم إلى سياق حركة التاريخ.
لا يؤلم المرء ما ينجم عن طبيعة التدخلات الخارجية المحكومة لتضارب المصالح بين الدول الكبرى، التي تبحث كل منها عن تأمين وتوسيع دائرة مصالحها، ولضمان استمرارها لأطول فترة ممكنة.
المؤلم حقا هو أن يغيب الوعي الذاتي لدى الفاعلين في المجتمعات العربية، إلى الحد الذي يجعل هؤلاء، يخدمون بغباء شديد، المخططات الأجنبية، فيمعنون في استنهاض أسوأ عوامل التدمير الذاتي لمقدرات شعوبهم، بدون أن يحققوا شيئا لأنفسهم.
لعلّ النموذج العراقي، يقدم التجربة الأسوأ، والأطول عمرا والأكثر بشاعة، والأكثر تدميرا للذات، لكون المشهد السياسي استقر على استنفار كل طاقة الطائفية والعصبوية حتى باتت الفاعل الأشدّ خطورة في التأثير على العملية السياسية وعلى الأمن والأمان الذاتي للفرد العراقي وللمجتمع بصفة شاملة.
أربعة عشر عاما منذ الغزو الأميركي الذي أدى إلى سقوط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، طفح خلالها الشعب العراقي الدم.
ملايين القتلى والجرحى، وملايين المهاجرين الذين تشتّتوا في بقاع الأرض، رحلت معهم آمالهم وأموالهم، وحملوا آلامهم دون أن يودعوا البلد الغني بثرواته، وبحضارته وبثقافاته وإبداعات أبنائه حتى أصبح البلد الغني صومالا أخرى يقهره الفقر، والجوع والمرض والقمع، وتنخر في عظامه آفة الطائفية البغيضة. الطائفية كانت موجودة موضوعيا في العراق لكن هذا الفيروس القاتل، كان مضطرا للاختفاء إلى أن جاءت لحظة استنهاضه على أسوأ الأشكال، وأفظع الجرائم.
كان ولا يزال هناك من يضخ المزيد من التشجيع المادي والمعنوي والسياسي، في صفوف الأحزاب والكتل السياسية، التي انقسمت على أساس طائفي، وعلى ذلك الأساس انبنت الحكومات والسلطات، وباتت تشكل الغطاء الرسمي لانفلات العنف الأسود.
قبل يومين، وبعد أكثر من أسبوع على بدء معركة تحرير الفلوجة من تنظيم الدولة، في اطار ما سمي باستراتيجية الحكومة لتحرير الأنبار، وأربيل ومركزها الموصل، اشتكى شيوخ عشائر السنّة في المنطقة من أنهم اكتشفوا عددا من المقابر الجماعية التي تستّرت عليها الحكومة والجيش، وكان السنّة ضحاياها.
شيوخ السنّة الذين عبّروا عن موقف صريح ضد إرهاب تنظيم الدولة الذي ينتمي إلى السنّة، لم يجدوا ما يفعلونه سوى أن يتوجهوا إلى المجتمع الدولي مطالبين بمحاسبة الحكومة التي سحبوا اعترافهم بها وتأييدهم لها.
في الواقع فإن سير المعارك في مدينة الفلوجة ضد تنظيم الدولة، جعل سكانها بين المطرقة والسندان، فلا هم موالون لتنظيم الدولة، ولذلك فإنهم يتعرضون للإرهاب والقهر والإذلال والتجويع والقتل، ولا الجيش مستعد لأن يظهر لهم وبحقهم بعض الرحمة.
وإذا كان الجيش عمليا هو المسؤول عن إدارة المعركة ضد تنظيم الدولة، وهو جيش يفترض به أن يكون جيشا وطنيا، متاح لكل فئات الشعب الانخراط فيه، فإن من يقود الحرب هو الحشد الشعبي، الذي يتشكّل على أساس طائفي من الشيعة فقط. الحشد الشعبي يملك من الأسلحة ما يفوق قدرات الجيش وهنا ينهض التساؤل، حول مصادر تسليحه، ومصادر قوته، والجهات التي تدفع له الأموال، ويفترض أن تكون أموالا وموازنات ضخمة بقدر ضخامة هذا الحشد الذي يفتخر بأنه من يحرز الانتصارات ضد تنظيم الدولة (داعش).
الاحتمالات حول الممولين لا تتجاوز ثلاثة مصادر وهي إما أن تكون الدولة العراقية، التي يسيطر عليها أحزاب الشيعة، وإما الولايات المتحدة، وإما إيران، باعتبار أن هذه الأطراف هي صاحبة العقل الأساسي، وهي صاحبة المصلحة الأساسية.
الحشد الشعبي عمليا يخوض معركة إبادة ليس فقط ضد تنظيم الدولة الذي يستطيع الدفاع عن نفسه، وإنما، أيضا، ضد سكان المنطقة من السنّة حتى لو كان هؤلاء أغلبيتهم أو بعضهم ضد تنظيم الدولة. إذا المسألة ليست سياسية هدفها القضاء على تنظيم الدولة الذي يهدد وحدة الدولة العراقية وإنما هي الحرب الطائفية بامتياز، وكأن المسؤولين عن ذلك يصفون حساباتهم منذ حرب الخوارج قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام.
المرض المستشري في العراق، يجول في معظم المجتمعات العربية التي تعاني اضطرابات وصراعات دامية، ولا نظن أن العلاج من هذا المرض، متوفر، أو يمكن أن يتوفر خلال سنوات قليلة قادمة، ما يعني أن المنطقة العربية لا تزال مفتوحة أمام عقود أخرى من الصراع، طالما أن أهلها تحولوا إلى ضحايا أو معاول هدم بيد هذا الطرف أو ذاك، والساحة مليئة بالأطراف ذات المصلحة في إدامة هذه الصراعات، قبل أن يستقر الحال على دمار عظيم يتطلب عقودا أخرى كثيرة قبل أن يصحو الضمير الغائب أو المغيَّب.