برنامج 55 دقيقة في تلفزيون «سكاي» مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون متزعما حملة الدعاية لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي (وقت مماثل اليوم التالي مع وزير العدل مايكل غوف ممثلا دعوة استقلال بريطانيا من الاتحاد)، أرجو أن يشاهده على «يوتيوب» المثقفون والساسة، وخصوصا الصحافيين العرب.
كيف «يزنق» الصحافي، بأدب جم، السياسي المراوغ، فإما أن يقدم الأدلة، أو يتأكد للمشاهد أن ملابسه الجديدة من تفصيل ترزي الإمبراطور.
البرنامج الذي يُبث مباشرة على الهواء بحضور جمهور، بدأ نصفه الأول بمقابلة أدارها فيصل إسلام، المحرر السياسي لشبكة «سكاي»، مع كاميرون الذي لم يعرف بالأسئلة.
في النصف الثاني تركت المذيعة الحضور وكاميرون يتبادلون الجدل الساخن والاتهامات.
السياسي المتمرس يتوقع الأسئلة ولا يُفاجأ بها. فكاميرون، كسابقيه، لم يصبح زعيما بالصدفة أو بمفاجأة حركتها الجماهير، بل تمرس طويلا في العمل السياسي.
كل الوزراء أعضاء برلمان منتخبون. النواب كانوا أعضاء منتخبين في مجالس محلية أو اتحادات مهنية قبل دخول البرلمان، والكل متمرس في مجال الجدل وإقناع الناخب بسياسته.
البث المباشر أمسك بتلابيب انتباه الأمة، ودارت مناقشات متوازية على وسائل التواصل الاجتماعي. بلغات زقزقات الـ«تويتر» أثناء البث، 823 في الدقيقة. وصلت أوجها (2041 زقزقة في الدقيقة) أثناء تبادل ساخن بين المستر كاميرون والطالبة الجامعية ثريا بوعزاوي التي أصبحت بطلة الأسبوع صحافيا واجتماعيا، وطالب أكثر من نصف المزقزقين بتخصيص برنامج خاص بها.. سألته ثريا عن موقفه غير الواضح من انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وقالت إنها من أسرة مغربية تتابع أخبار الشرق الأوسط من المنبع بالعربية والفرنسية والإنجليزية، وتركيا تدعم التطرف والإرهاب وحركات كـ«الإخوان»، فلماذا يريد كاميرون الأتراك في الاتحاد؟!
كعادة الساسة حاول كاميرون الإجابة الملتوية فقاطعته ثريا: «أنا أعرف اللت والعجن (الكلمة الإنجليزية waffle) لأول وهلة كطالبة لفقه اللغة English philology)) والأدب الإنجليزي». بابتسامة وهدوء أعصاب وروح دعابة (لا تصادفها عند سياسي أفريقي أو شرق أوسطي) تلقى كاميرون الصفعات الكلامية من ثريا، وركلات شقراء من مقاطعة ايسيكيس (المقابل البريطاني لبنت البلد المصرية) اتهمته بـ«النفاق الانتهازي»، لأنه قبل أسبوعين اتهم صديق خان، عمدة لندن العمالي الجديد، بمصاحبة المتطرفين، ثم صاحب كاميرون العمدة على منصة الدعوة للاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع لجذب أصوات المسلمين واليسار.
رغم «العلقة» الكلامية التي تلقاها كاميرون من الجمهور، وعلى الصحافة الإلكترونية وهجوم وسخرية معظم الصحف البريطانية (افتتاحية «التلغراف» الداعمة لحزبه المحافظ حذرته بأنه يواجه تمردا شعبيا عاما كالذي أسقط حكومات من قبل)، في صباح اليوم التالي خاصة، تكررت اتهامات الجمهور بأنه يقود حملة لتخويفهم، فإنه بدا مستمتعا بالفعل بهذه المبارزات الكلامية. وأشهد شخصيا بأنه بعد انتهاء البث المباشر، تجاهل المستر كاميرون إلحاح مساعديه على مغادرة الاستوديو، واستمر في النقاش مع الجمهور أفرادا، والدفاع عن موقفه أمام هجوم مستمر، وصافح العشرات من الذين اختلفوا معه في محادثات جانبية. كاميرون سياسي محنك انتهز الفرصة لزيادة شعبيته، مستظرفا مع الناس. فهذا النوع من الاحتكاك المباشر بالناخبين فرصة نادرا ما تُتاح لساسة أصبحوا رؤساء حكومات. فالعيادة ((surgery، وهي واجب النائب البرلماني في بريطانيا )التي يقابل فيها أبناء الدائرة أسبوعيا) عادة ما تقتصر على شكاوى ومشكلات شخصية وعائلية. أما مساءلته البرلمانية الأسبوعية أو استجوابه أمام لجان برلمانية فتخضع لقواعد محكمة تمكِّنه عادة من تحويل مسار الجدل إلى نصف الملعب الذي يمكّنه من تسديد الضربة في مرمى الخصم. وهذا ما حاوله كاميرون في مواجهة مساء الخميس بالمراوغة في الإجابة عن أي سؤال بتحويله إلى الاقتصاد (أقوى النقاط التي تدعم دعايته ومعسكر البقاء في الفيدرالية الأوروبية، حيث احتشدت قوى البنوك العالمية ومتعددة الجنسيات ووكالات العولمة والاقتصاديون الممولون منهم لنشر تقارير - معظمها ملفق - بتوقع خراب وكوارث اقتصادية إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد). الاستثناء كان ثريا، والاستجواب الذي أداره الصحافي فيصل إسلام ببراعة تستحق التدريس في معاهد الصحافة العربية.
طوال 55 دقيقة احتفظ كاميرون بهدوء أعصابه ورباطة جأشه وروح الدعابة، باستثناء شبه التوتر مرتين اتهم فيهما المحاور إسلام «بالظهور كممثل تيار الخروج من الاتحاد»، وبالمبالغة في «ذلاقة اللسان». إسلام بحث موضوعه جيدا وجاء مسلحا بالأرقام، عندما وجه الأسئلة الحادة لكعب أخيل كاميرون، وهو ارتفاع عدد المهاجرين لأضعاف وعده الانتخابي بتقليلهم. مشكلة تشغل بال الناخبين ولا يوجد لمعسكر البقاء في الاتحاد إجابة عنها، لأن حرية حركة مواطني بلدان الاتحاد الأوروبي جزء من معاهدة ماستريخت ولا سبيل للحكومة للحد من تدفق مهاجري أوروبا إلا بالانسحاب من معاهدتي ماستريخت ولشبونة. أرقام المهاجرين الأوروبيين الذين يتلقون الإعانات الاجتماعية (من إحصائيات الحكومة نفسها) كانت القذائف المخترقة لدروع كاميرون الدفاعية. أما الضربة القاضية التي سددها إسلام إلى رئيس الوزراء فكانت السؤال: «إذا صوتت الأمة بالخروج من الاتحاد، أيهما سيأتي أولا: الكساد الاقتصادي أم الحرب العالمية الثالثة؟»، واهتز الاستوديو لقهقهة وضحكات الجمهور.
كانت مبالغات حكومة كاميرون التي بدأت بتسونامي نذر الشؤم من متعددة الجنسيات والاحتكارات الكبرى والبنوك بالتنبؤ بخراب مالي وكساد الاقتصاد بالخروج من الاتحاد الأوروبي بلغت أوجها الكوميدي، عندما حذر بأن بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي هو ما يمنع حربا عالمية جديدة.
الدرس هنا نقدمه للمؤسسة الصحافية في بلدان القراء، من تماسك رجل السياسة المحنك أمام هجوم جمهور واع بأسئلة مفاجئة، وحنكة وبراعة صحافي (مع خفة دم يحسده عليها الكوميديون المحترفون) جاء مسلحا بالمعلومات.
وقبل أن «تقتبس» الصحافة العربية من زميلاتها البريطانية نجومية ثريا بوعزاوي وتتفاخر بوعي «طالبة عربية جامعية أحرجت رئيس وزراء بريطانيا»، نذكرهم بحقيقة باردة، فلا يوجد جزء عربي في ثريا غير جيناتها الوراثية (وقد تكون من جينات سكان المغرب الأصليين من الأمازيغ البربر لا العرب) فثقافتها ونشأتها وتعليمها وتفكيرها البريطاني هي التي مكنتها من تسجيل الهدف في مرمى الزعيم، وليس جيناتها عربية كانت أم أمازيغية.
درس آخر وفرته السلطة الرابعة كمؤسسة لا تقوم للديمقراطية قائمة بغيابها، ليس التزاما بتثقيف أو تنوير الجمهور، وإنما في إطار تجاري، في اقتصادات حرية السوق، حيث تتنافس مع بقية وسائل الصحافة على المشاهدين والقراء بتوفير الأكثر جودة عبر أفضل المهنيين لتقديم ما يهم الجمهور ويشغل باله بحياد تام.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية
1
شارك
التعليقات (1)
جعفري نور الدين
الأحد، 05-06-201607:38 م
هذا السفيه يريد ان يقول لنا بهذا الهراء و الهذر ان بربطانيا فيها حرية وهذا حق لكن الحقيقة ايضا ان درويش من انصار الديكتاتورية والتسلط في بلداننا العربية ولو جرى للسيسي مثل ما جرى لكاميرون صدقوني لاعتبرها قلت ادب او اكيد اخوان فدعكم من هؤلاءالمنافقين التافهين