أيام قلائل ويأتي شهر رمضان المعظم، أعاده الله على الأمة الإسلامية بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ويبدأ كل مسلم في إعادة علاقته بكتاب الله (القرآن الكريم)، تلاوة وتدبرا، وربما خطط البعض لنفسه أن يقرأ في تفسيره، ويسأل الكثيرون في هذا التوقيت: ما أفضل كتاب تفسير نقرأه في رمضان، ونستطيع به فهم كتاب الله، وتدبر معانيه؟!
وربما يصدم القارئ أو يتعجب إذا قلت له: إن أفضل تفسير للقرآن أنصحه أن يقرأه في هذا العام وكل عام، هو (عقله وقلبه)، وعليه ألا يبدأ بأي تفسير يقرأه، ولتكن بدايته هذا العام مع نوع آخر يجربه، وهو ما جربه من قبل علماء ربانيون، ومفكرون مصلحون، فكانت نصيحتهم خير نصيحة، لأنها نصيحة مجرب، يقول الإمام محمده عبده ناصحا أحد تلامذته: "أدم قراءة القرآن، وفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره كما كان يتلى على المؤمنين أيام الوحي، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخّصك القرآن إليه، واحمل نفسك على ما يحمل عليه".
وقد سأل أحد الإخوان حسن البنا عن أفضل التفاسير، وأقرب طرق الفهم لكتاب الله تبارك وتعالى؟ فأجابه: "(قلبك). فقلب المؤمن لا شك هو أفضل التفاسير لكتاب الله تبارك وتعالى. وأقرب طرائق الفهم أن يقرأ القارئ بتدبُّر وخشوع، وأن يستلهم الله الرُّشد والسداد، ويجمع شوارد فكره حين التلاوة، وأن يُلِمَّ مع ذلك بالسيرة النبوية المطهّرة، ويُعْنَى بنوع خاص بأسباب النـزول، وارتباطها بمواضعها من هذه السيرة، فسيجد في ذلك أكبر العون على الفهم الصحيح السليم، وإذا قرأ في كتب التفسير بعد ذلك، فللوقوف على معنى لفظ دَقّ عليه، أو تركيب خفي أمامه معناه، أو استزادة من ثقافة تعينه على الفهم الصحيح لكتاب الله. فهي مساعدات على الفهم، والفهم بعد ذلك إشراق ينقدح ضوءه في صميم القلب".
ومن قرأ (في ظلال القرآن) لسيد قطب، أو سمع خواطر الشيخ الشعراوي حول القرآن، سيجد هذا المنهج واضحا بشكل كبير، فهي تأملات مسلم بقلبه وعقله مع كتاب الله، ليس بينهما وسيط، سوى ما يحتاجه من معاني كلمات، أو سبب للنزول، ولذا أنصح القراء في هذا الشهر الكريم، بالإتيان بكتاب (كلمات القرآن) للشيخ حسنين مخلوف، أو مصحف على هامشه معاني الكلمات، دون التفاسير التي تجعلك أسير ما كتبه المفسر، وتأمل بنفسك كتاب الله عز وجل، وأنصح القارئ أن يكون لديه نوتة صغيرة، أو على موبايله، يدون فيها في كل يوم المعاني الجديدة التي فهمها من الآيات، وما فتح الله عليه بها، ولا يكثر على نفسه من واجبات التأمل والتدبر، سيجد بعدها حصيلة هائلة من معاني ترسخت في قلبه وعقله، وكان لها أكبر الأثر عليه تربية وسلوكا وروحا.
وأستطيع أن أنقل لك تجربة شخصية، وجدتني بعدها قد حصلت على مخزون كبير من الدروس والمعاني والتأملات التي ربما لا يجدها في كتاب تفسير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد كنت أقرأ في سورة الكهف كثيرا، ولكني وقفت عند سؤال مهم في القصة، لم أجد كتابا في التفسير قد أجابه، ولا أي كتاب في قصص الأنبياء، أو قصص القرآن، وهو: لقد دخل الشباب الكهف، وهم حصيلة كل المؤمنين في القرية، ولم يتركوا خلفهم مؤمنا واحدا، وعندما خرجوا من الكهف وجدوا البلدة بأكملها من حاكمها إلى أصغر مواطن قد وقر الإيمان في قلوبهم، وأصبحوا جميعا مؤمنين، فمن ذا الذي قام بواجب دعوة المجتمع في غيابهم؟ وكيف انتشر الإيمان في مجتمع قال عنهم الشباب أنفسهم: (إنهم إن يظهروا عليكم، يعيدوكم في ملتهم) أي أن المجتمع كان مجتمعا جبارا ضد دعوتهم، فكيف انتشر الإيمان فيهم وتحولوا جميعا؟!!
ولم أجد إجابة إلا هذا المعنى الذي توارد علي: أن أهل القرية الكفرة حكوا قصة الفتية لأبنائهم، وكانت من باب التشويه والذم، والتحذير من هذا التفكير المخالف لأهل القرية، وأن شبابا مجنونا كان يقول: إن الله واحد، وأن هناك إلها يعبد، فحاذر يا بني أن تصاب بما أصابهم، فتحول التخويف والتحذير، إلى سؤال: عن هؤلاء وعن منهجهم، وعن مدى صدق دعوتهم، فقد تحول التشويه إلى تفكير منهجي قاد كثيرا منهم للإيمان بالله.
ذاك كان تأملا من التأملات، ولو تأملت عزيزي القارئ في تأملي نفسه، لربما خرجت بمعنى آخر، أقوى وأدق مما خرجت به، وهذا هو القرآن المعين الذي لا ينضب، لمن ينهل منه.
للتواصل مع الكاتب: [email protected]