لا تكتب عن زيارة باراك أوباما إلى هيروشيما. أنت الصحفي العربي لا يحق لك. لديك من الهيروشيمات ما يكفي ويفيض. هيروشيما الاستبداد. وهيروشيما التكفير. وهيروشيما الميليشيات المسنونة. وهيروشيما الخرائط المغدورة. وهيروشيما الأقليات. وهيروشيما التعصب والتخلف والفقر.
ببساطة أسألك. كم هيروشيما تعادل الحروب العراقية التي لا تنتهي؟ والمذبحة السورية المفتوحة؟ والانهيار الليبي الصارخ؟ والتمزقات السودانية واليمنية والصومالية؟ دعك من هيروشيما. سأحكي لك قصة اشترط راويها إخفاء اسم مسرحها.
ليست المشكلة أن أمه ماتت. لا أقصد أنه لم يحزن. يعرف أن الأم هي وسادة القلب. وأنها حب جارف لا تعتريه الفصول.
انتابه شيء من عذاب الضمير. حين لفظت أنفاسها قال في سره «لقد ارتاحت». بعض الموت أفضل من بعض الحياة. ثم إنه رآها تموت كثيرا وطويلا في الشهور الماضية. عرش الأسى في عينيها. وتدافعت التجاعيد إلى الوجه.
كأنها أدركت أنها لن ترجع إلى البلاد التي لفظتها. أخفى عنها أن المفتاح الذي حملته معها صار مفتاحا بلا بيت. وكانت تهرم مع المفتاح تماما كما أصاب فلسطينيات خسرن الأرض وتسلحن بالمفتاح. وكان يشم عميق خيبتها. تنتظره وتنظر إلى يديه لتتأكد أنه عاد بما يرد الجوع عن أحفادها.
كثيرات مثلها توزعن في لبنان والأردن وتركيا. توزعن على شفير الوطن السوري وعلى أمل العودة إليه. تعاقبت الفصول وازداد الوطن ابتعادا. وكانت تسأله متى؟ وكان يكذب عليها وعلى نفسه.
ليست المشكلة أن أمه ماتت. المشكلة هي ماذا يفعل بجثة أمه، بعيد وفاتها ذهب شقيقه ليستطلع إمكان مواراتها في مقابر القرية التي استضافت عددا من اللاجئين. كان الجواب مهذبا لكنه كان سلبيا؛المقابر محجوزة وليست مفتوحة أمام الطارئين. ثم إن اختلاط العظام مقلق تماما كاختلاط التواريخ. لا يلوم أهل القرية الذين رحبوا أصلا بالوافدين. اعتقدوا أن محنتهم لن تطول وسيغادرون قريبا. خدعتهم تلك الحرب المركبة من جملة حروب محلية وإقليمية ودولية. وربما يخاف أصحاب الأرض أن تتحول الجثث الطارئة جذورا، وأن ترتبك الهوية إن تكاثرت العظام الغريبة. إننا في الشرق الأوسط، في بلاد تكره الأحياء وتخاف من الأموات.
حاول شقيقه اجتراح حلول، حفرة صغيرة في مكان منعزل، لكن القبر يثير التشاؤم ويخفض سعر الأرض. الرجل الوحيد الذي أبدى مرونة عرض استضافة الجثة لأيام محدودة لقاء مقابل بالدولار، كاد يضحك. إنه يبحث عن حفرة لإخفاء عظام أمه ولا يسأل عن فندق لاستضافتها. ومن أين يأتي أبناء اللاجئة بالدولارات؟ وماذا بعد انتهاء العقد مع صاحب الأرض؟
ما أفظع أن يترك اللاجئ حائرا بجثة أمه. هاجمته أفكار غريبة؛ ماذا لو أحاط الجثة بالأغصان اليابسة وأحرقها؟ صرف النظر فالمعتقدات لا تسمح. وماذا لو تركها تتحلل في العراء احتجاجا على وحشية هذا العالم؟ صرف النظر. خطر في باله أن يستيقظ عند الفجر، وأن يحمل الجثة على ظهره ويقتحم بها الحدود، لو كانت بلاده تشفق على الجثث لأشفقت على الأحياء. لا اعتراف بحق العودة حتى للأموات.
أفكار غريبة تزاحمت في أوردة رأسه، لا جدوى من إرسال الجثة إلى البيت الأبيض؛ أوباما لا يمكن أن يؤتمن على توازنات الشرق الأوسط أو جثث أبنائه. ولا يمكن إرسالها إلى الكرملين؛ القيصر بارد ومنتج للجثث ولا يرف له جفن، ومن يدري فقد يتهم لافروف المأسوف عليها بالضلوع في مؤامرة التكفيريين.
ما أفظع أن تترك اللاجئ حائرا بجثة أمه!
استمر في الهذيان؛ يمكن أن يرسلها إلى المبعوث الشديد الأناقة والتهذيب ستيفان دي ميستورا، مع توصية بأن يدرج بين أوراقه خطة فتح ممرات آمنة للجثث العائدة من الأردن وتركيا ولبنان والعراق. لكن دي ميستورا مسكين وكثير الانشغالات وضائع بين ارتباكات كيري وأكاذيب لافروف. هذه جثة عربية، وعلى جامعة الدول العربية التي تموت من الضجر أن ترتب قبورا عاجلة لعرب كثيرين.
حسد الذين عبروا البحر وابتعدوا. لو ماتت أمه في ألمانيا لعثروا لها على حفرة لائقة، والأمر نفسه بالنسبة إلى السويد. هذه البلدان أكثر رحمة من أوطاننا؛ أوطاننا الدجالة التي تبخل علينا بالحرية والكرامة والطمأنينة، ثم تبخل علينا بقبر.
لن يرسلها إلى أي مكان. حين ينزل الليل سيحملها ويبتعد. سيبحث عن بئر مهجورة وسيخفيها هناك. هذه بلادنا؛ تضيع أعمارنا فيها، وتضيع جثثنا على أطرافها.