قضايا وآراء

راشد الغنوشي وعلي عزت بيغوفيتش

هاني بشر
1300x600
1300x600
لم تعرف ضفتي المتوسط رجلين جمعا بين الفكر السياسي الإسلامي تنظيرا وممارسة خلال نصف القرن الأخير كما عرفت رئيس حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي والرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش. كلاهما يعد مدرسة فكرية مستقلة عبر كتبه وأفكاره، وأيضا خاضا حروبا سياسية وعانيا من الاضطهاد والسجن حتى قادا حزبين وصلا بهما إلى رأس السلطة في لحظات تاريخية حرجة في بلدين هامين؛ إحداهما في أوروبا وهي البوسنة والهرسك والأخرى في العالم العربي وهي تونس.

وإذا كانت التجربة السياسية والفكرية للغنوشي لا تزال تتعرض لاختبارات متوالية، ربما منعت من دراستها والاهتمام بها بالقدر الكافي، فإن تجربة بيغوفيتش، رغم رحيله منذ سنوات، لم تحظ بأي قدر من الاهتمام البحثي أو الإعلامي؛ لا على المستوى الفكري أو السياسي أو الإنساني، في مفارقة غير مفهومة وسط التحديات التي تواجه مسلمي الشرق والغرب والتحولات التي تمر بها أوروبا. ولا تزال تجربة الغنوشي الفكرية والسياسية أسيرة الاستقطاب الإعلامي والسياسي عبر النظر إليها بمنظور الإخوان المسلمين وعقد المقارنات بصفة دائما بين الحركة والجماعة. تماما كما تاهت تجربة علي عزت بيغوفيتش في أتون سردية المظلومية الإنسانية التي لحقت بمسلمي البوسنة، رغم إسهاماته الفكرية ونضاله السياسي منذ أربعينيات القرن المنصرم، وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية وكفاحه ضد الاحتلال النازي لبلاده ومن بعده الحكم الشيوعي.

إن أول ما يلفت الانتباه في تجربة الرجلين الثرية هي تلك المواقف التي اتخذاها في لحظات مفصلية عصيبة رغم اختلاف السياقات وشكل التقييم الذي تم لهذه المواقف، وهل يمكن اعتبارها تصرفات تكتيكية سياسية أم تعبير عن موقف فكري؟ وما حدود الفوارق بين النظرية والتطبيق؟ ولعل أبرز المواقف السياسية للغنوشي مؤخرا هي ما يعرف باتفاق الشيخين الذي أبرمه مع الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي في باريس عام  2013، حين كانت النهضة تتولى الحكم ضمن ائتلاف التروكيا. وهو اللقاء الذي كان مقدمة لشراكة الجديدة بين النهضة وغريمها حزب نداء تونس الذي تولى الحكم بعد ذلك خلفا للترويكا وصولا لمؤتمر النهضة العاشر ومسألة الفصل بين السياسي والدعوي. النتيجة الأولى التي يخرج بها أي متابع لهذا الموقف هو أنه حفظ تونس من مسار انقلابي وإراقة دماء كان يراد لها أن تدخل فيه يشبه إلى حد بعيد المصير المصري بعد اعتصامات الأزمة السياسية في تونس عام 2013، رغم أنه خفض من سقف الطموحات الثورية والنهضوية في بلد كان شرارة الثورات العربية. 

في سياق مكاني وزماني آخر، اضطر على علي عزت بيغوفتش لأن يجلس مع ممثلي الصرب والكروات عام 1995 لتوقيع اتفاق دايتون للسلام الذي كان خطوة غربية متأخرة جدا بالإضافة لبنوده المجحفة التي لا تلبي تطلعات شعب البوسنة . هذا الشعب الذي صوت لصالح الاستقلال عام 1992 وأصبحت دولته عضوا في الأمم المتحدة واعترفت بها الولايات المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة في ذلك الحين قبل أن تتعرض لهجوم مسلح من الصرب والكروات في البوسنة مدعومين من الدولتين الجارتين صربيا وكرواتيا، ويرتكبوا جرائم إبادة جماعية بحق المسلمين فيها ليتم اختزال العدوان في وصف مضلل هو الحرب الأهلية. وحين تعالى النقد لهذه الاتفاق، قال بيغوفيتش وقتها إنه أيضا معترض عليه ولا يراه مناسبا، لكنه كان الوسيلة الوحيدة لحقن الدماء ولتترك الفرصة للأجيال الجديدة لكتابة مزيد من الفصول في تاريخ هذا البلد. 

القاسم المشترك بين موقفي الرجلين هو أنهما قدما حقن الدماء على ما سواه من مكاسب مع ضمان حدٍ أدنى من الحريات السياسية الكفيلة بتأجيل الحسم التام لقضايا شائكة لمرحلة تاريخية أخرى. أي أنه ربما يكون كسبا للوقت واستثماره لصالح عمليات بناء من نوع مختلف يورثوا من خلاله الأجيال الجديدة بلدا خاليا من الصراع الدامي لتتحمل هذه الأجيال مسئولية مرحلتها. للوهلة الأولى يبدو الموقفان براغماتيين بامتياز، إلا أن المآلات على المدى المتوسط والطويل كفيلة بتبيان أوضح لهذه القرارت وما إذا كانت محملة برؤية فكرية استشرافية للمستقبل أم لا. 

في حالة البوسنة، فإن أكثر من عشرين عاما مرت الآن بعد اتفاق دايتون للسلام تشير إلى أن هناك شبه جيل جديد كامل تشكل في البلاد على اعتبار أن المؤرخين يحسبون وحدة الجيل بخمسة وعشرين سنة. تراجعت تحديات الحرب والإبادة السابقة واحتمال تحول البلاد حينها إلى أفغانستان جديدة خاصة مع المقاتلين العرب الذين شاركوا في القتال ووفر لهم علي عزت بيغوفتش الدعم وقت الحرب، وحلت الآن تحديات أخرى تتعلق بالتنمية وحقوق الإنسان. أصبح التعايش أمرا واقعا وانتقل النقاش لسعي البوسنة اليوم لدخول الاتحاد الأوروبي . كما دخلت تركيا على الخط عبر دعم مشاريع عديدة هناك ومحاولة ضم البوسنة لحلف شمال الأطلسي الناتو. هذا كان مصير بلد تجرع رئيسه المفكر المسلم بعد الاستقلال كأسا قيل إنها فيها السم القاتل وراهن على الوقت وعلى الأجيال الجديدة. فهل سيثمر راهن الغنوشي على الوقت وعلى الأجيال الجديدة؟
0
التعليقات (0)