شعور عميق بخيبة الأمل عكستها تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي دانيال فالس، التي حاول من خلالها إقناع إسرائيل بجدوى الانضمام إلى الجهد الدولي الذي تقوده فرنسا من أجل إعادة الحيوية لعملية السلام المتوقفة منذ زمن ليس قصيرا.
عاد فالس إلى بلاده مثلما عاد من قبله وزير خارجيته، الذي لم تنجح زيارته، ولا اللقاءات العديدة التي جرت في باريس مع وفود إسرائيلية في تعديل الموقف الإسرائيلي الرافض للمبادرة الفرنسية. ثمة ما يعرفه الفرنسيون وغيرهم من المهتمين وغير المهتمين بعملية السلام، لكنهم على ما يبدو، يشعرون بالحاجة الماسة للقيام بمحاولة، وربما كانت المحاولة الأخيرة للسيد فالس، من باب نزع الذرائع ورفع العتب.
الفرنسيون وغيرهم يعرفون، أيضا، أن ما بعد المبادرة سيختلف أو انه ربما سيختلف عما قبلها، لا لجهة التحول نحو تطبيق عقوبات مباشرة على إسرائيل الدولة الحليفة، ولكن لجهة تطوير مواقف فرنسا ودول أوروبية تجاه الفلسطينيين.
كان وزير الخارجية الفرنسي الحالي أعاد صياغة الإعلان عن المبادرة الفرنسية، حيث حذف منها، الجزء الذي كان أعلنه سلفه من أن فرنسا ستعترف بالدولة الفلسطينية في حال لم تنجح المبادرة، وكان هذا التعديل لإقناع إسرائيل من أن فرنسا لا تستخدم لغة التهديد غير أن التعديل لا ينسف الفكرة الأساس.
في مواجهة المبادرة الفرنسية وللالتفاف عليها وقطع الطريق أمامها تحاول إسرائيل بث خطاب كاذب وأخبار ملفقة عن أنها مستعدة لإحياء العملية السياسية عبر أطر إقليمية، وان ثمة اجتماعا ثلاثيا يجمع الرئيس الفلسطيني إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة.
ولإكمال خطاب الخديعة، الذي خبره الفلسطينيون والعالم أجمع يبدي نتنياهو المعروف بالكذب استعدادا لمفاوضات مع الرئيس محمود عباس بدون شروط مسبقة، وانه يكتفي بمعاودة طرح مسألة الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، وبأن الدولة الفلسطينية ينبغي أن تكون بدون سلاح، ثم لا يعتبر ذلك شروطا مسبقة.
يعلم العالم كله أن إسرائيل التي تتحدث عن استعدادها لمفاوضات بدون شروط مسبقة، إنما تمارس على الأرض شرطا مسبقا يصعب على الفلسطينيين قبوله، ذلك أن إسرائيل تواصل توسيع وتسمين الاستيطان، وإجراءات تهويد القدس في كل لحظة وهي غير مستعدة للتوقف لحظة عن ممارسة هذا الشرط.
عمليا فإن المبادرة الفرنسية، تقوم على مبدأ التحول عن الآليات السابقة التي فشلت في تحريك عملية السلام، سواء فيما يتعلق بالرباعية الدولية أو المفاوضات الثنائية، نحو تدويل هذه الأزمة أو هذا الملف، وذلك انطلاقا من الإقرار بأن ملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي ليس ملفا محليا أو إقليميا.
إذن، فالعنوان الأبرز لوصف الحراك السياسي الجاري فرنسيا وعربيا وإقليميا وإسرائيليا وفلسطينيا هو أن اللحظة السياسية تشهد تجاذبا بين فكرتي الحل المحلي أو الإقليمي والحل الدولي، الذي لطالما سعى إليه الفلسطينيون.
من الواضح أن إسرائيل ترفض مثلما كانت دائما، أي تدخل ذي طبيعة دولية، حتى لو كان هذا التدخل من قبل أقرب حلفائها، وترفض أيضا أي مرجعية للمفاوضات، لأن القرارات الدولية في غير صالح إسرائيل. إسرائيل تصر على أن تبقى المفاوضات في إطار ثنائي، لأن موازين القوى تمكنها من التحكم بنتائج المفاوضات التي لا تريدها أن تصل إلى حل يؤدي إلى تطبيق رؤية الدولتين. إصرار فرنسا على المضي قدما في مبادرتها كما عبر عن ذلك رئيس وزرائها خلال زيارته هذا الأسبوع لفلسطين، يعكس رغبة كبيرة لدى دول كثيرة أوروبية وغربية وربما يعكس أيضا موافقة ضمنية أميركية أو تجاهلا في أسوأ الأحوال.
المهم الآن هو أن لا يصدر عن العرب أو غيرهم أي مبادرة أو تحرك، يمنح إسرائيل الفرصة للتهرب، ذلك أن من يعتقد بإمكانية زحزحة الموقف الإسرائيلي هو واهم، ولذلك لا بد من الامتناع عن تقديم مثل هذه المساعدة لنتنياهو وحكومته الأشدّ تطرفا.
الحكم على مدى صوابية السياسة التي تتجه نحوها القيادة الفلسطينية التي قبلت المبادرة الفرنسية رغم وجود تحفظات عليها، هذا الحكم لا ينبغي أن يقوم على انتظار إنجازات مباشرة وفورية، فإذا كان الأمر كذلك فإن على الجميع أن يدرك بأن لا المبادرة الفرنسية ولا غيرها، يمكن أن تقود إلى إنجاح عملية سلام.
في هذا الزمان، وفي ظل الظروف الدولية، خصوصا العربية والإقليمية السائدة، لا يمكن بأي حال المراهنة على أي مبادرة تؤدي إلى تحقيق السلام، لكن مثل هذا الاستنتاج ينبغي ألّا يعطل سعي فلسطين والفلسطينيين نحو تدويل الملف، لتحقيق إنجازات سياسية وتعميق وتوسيع دائرة التضامن مع القضية الفلسطينية وتعميق وعي المجتمع الدولي بحقائق الصراع المرير والطويل.